بسم الله الرحمن الرحيم
فضل العشر الأواخر من رمضان
الحمد لله الذي فَضَّل شهر رمضان على سائر الأوقات، وجعل صيامه سببا في تكفير السيئات، وخصَّ العشر الأواخر بمزيد من العطايا والدرجات، وجعل فيها ليلة القدر ليعفو عن الخطايا والزلات، وضاعف فيها أجور الأعمال والطاعات، وبعد،
فإن العشر الأواخر من رمضان تترتب عليها العديد من الفضائل، ولها مزايا تفضّلها على غيرها من ليالي الشهر المبارك، وذلك أنها الليالي التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحييها كلها بالطاعة، ويجتهد فيها في العبادة وفعل الخير ما لا يجتهد في غيرها، وفيها ليلة القدر التي هي ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله». متفق عليه([1]).
فينبغي للمسلم أن يحقق في هذه العشر مفهوم العبودية لله -عز وجل- في حياته العامة والخاصة، ويحرص على تزكية نفسه وإصلاح قلبه والتزود بالخيرات([2]).
ومن أهم أعمال البر التي ينبغي الحرص عليها في العشر الأواخر:
1- قيام الليل مع إطالته قدر الاستطاعة؛ تحرّيا لليلة القدر التي هي أعظم ليالي العام، والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر (أي قرابة ٨٣ سنة)، قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدّم من ذنبه». رواه مسلم([3]). وقد أخفى الله -عز وجل- ليلة القدر؛ ليجتهد العباد في طلبها ويكثروا من العبادة، ومَن قام العشر الأواخر كاملة فقد قام ليلة القدر. والأفضل أن يصلى قيام رمضان في جماعة حتى ينصرف الإمام؛ لتنال ثواب قيام ليلة كاملة؛ لحديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى بهم حتى ذهب شطر الليل، قال: «فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ». رواه الخمسة([4])، وصحَّحه الألباني. وكذلك إطالة القيام لمن قدر عليه، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ. قَالَ قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ» رواه الخمسة([5]) وصححه الألباني، وهو فعل الصحابة -رضي الله عنهم-، فعن عبد الله بن أبي بكر قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور". وفي أخرى: "مخافة الفجر"([6])، و«أمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشر ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر"([7]).
2- تلاوة القرآن: فرمضان هو شهر القرآن والإكثارِ من قراءته بتدبر وخشوع، فـ«الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان»([8]).
وكان جبريل يلقى النبي -صلى الله عليه وسلم- «في كلّ ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن». رواه البخاري([9]). وعن فاطمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثها «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ([10]) مَرَّتَيْنِ». متفق عليه([11])([12])، وعن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث([13]). وعَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعي، قَالَ: كَانَ الْأَسْوَدُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ، وَيَنَامُ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَكَانَ يَخْتِمُ فِيمَا سوى ذلك في ستة»([14])([15]). فينبغي استغلال رمضان -ولا سيما العشر الأواخر- في التفرغ لمدارسة القرآن ومذاكرته.
3- الاعتكاف: وهو من أجلّ أعمال البر في العشر الأواخر، و«النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه اللّه، ثم اعتكف أزواجه من بعده». متفق عليه([16]). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا». رواه البخاري([17])، ولا يصح الاعتكاف إلا في المساجد.
4- الحرص على ترديد الدعاء المأثور في حديث عائشة -رضي الله عنها-: «قالت: قلت: يا رسول اللّه أرأيت إن علمت أيّ ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّي"»([18])([19]).
5- الدعاء: فالدعاء عبادة عظيمة يغفل عنها كثير من الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ»([20]). وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمر الدّنيا والآخرة إلّا أعطاه إيّاه، وذلك كلّ ليلةٍ». رواه مسلم([21]).
وقال تعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[البقرة:186]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "وَفِي ذِكْرِهِ -تَعَالَى- هَذِهِ الْآيَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الدُّعَاءِ، مُتَخَلِّلَةً بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ، إِرْشَادٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ"([22]). "وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، وَإِلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَرْجُوَّةٌ دَعَوَاتُهُ"([23]).
كما دلّت السنة على أن دعوة الصائم مستجابة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر»([24]).
6- الإنفاق في سبيل الله: فالإكثار من الصدقة مستحب في رمضان عامة، وفي العشر الأواخر منه خاصة، و«كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة». متفق عليه([25]).
7- إعانة الأهل على العبادة والطاعة، وتشجيعهم عليها.
([1]) رواه البخاري (٢٠٢٤)، ومسلم (١١٧٤).
([2]) قال ابن الجوزي -رحمه الله- في التبصرة (2/ 103): «وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الاجْتِهَادُ فِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ أَكْثَرَ من أوله لشيئين: أحدهما لشرف هذا الْعَشْرِ وَطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ».
([4]) أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (1605)، وابن ماجه (1327)، وأحمد (21447) واللفظ له، باختلاف يسير.
([5]) رَوَاهُ أحمد (21447)، وأَبُو دَاوُدَ (١٣٧٥)، وَالتِّرْمِذِيُّ (٨٠٦)، وَالنَّسَائِيُّ (١٢٨٩)، وابْنُ مَاجَهْ (١٣٢٧).
([6]) رواه مالك في الموطأ (7)، وعنه: الفريابي في الصيام (177)، والبيهقي في السنن الكبير (4688) والشعب (3272)، وصحح إسناده الألباني.
([7]) أخرجه مالك في الموطأ (4)، وعنه البيهقي في السنن الكبير (4678)، وعبدالرزاق في مصنفه (7973)، وقال الألباني: "سنده صحيح جدا".
([8]) أخرجه أحمد (6626)، والحاكم (2036) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، والبيهقي في شعب الإيمان (1994)، وصححه الألباني.
([10]) أي: العام الذي قبض فيه -صلى الله عليه وسلم-.
([11]) رواه البخاري (٣٦٢٣)، ومسلم (٢٤٥٠)، واللفظ له.
([12]) وعن أبي هريرة قال: «كان يُعْرَضُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن كل عام مرة، فَعُرِضَ عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه». رواه البخاري (٤٩٩٨)، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره (1/ 51): "وَخُصَّ بِذَلِكَ رَمَضَانُ مِنْ بَيْنِ الشُّهُورِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِيحَاءِ كَانَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ دِرَاسَةُ الْقُرْآنِ وَتَكْرَارُهُ فِيهِ".
([13]) أخرجه ابن كثير في فضائل القرآن (ص255)، وقال: "إسناد صحيح".
([14]) أخرجه سعيد بن منصور في سننه ت الحميد (151)، وقال محققه: "سنده صحيح".
([15]) قال ابن رجب -رحمه الله- في لطائف المعارف (ص306): "وإنما ورد النّهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك. فأمّا في الأوقات المفضّلة؛ كشهر رمضان، خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة، كمكّة، لمن دخلها من غير أهلها، فيستحبّ الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتناما للزمان والمكان. وهذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدلّ عمل غيرهم".
([16]) رواه البخاري (٢٠٢٦)، ومسلم (١١٧٢).
([18]) أخرجه أحمد (25384)، وابن ماجه (٣٨٥٠)، والترمذي (٣٥١٣) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، والنسائي (٧٦٦٥)، وصححه الألباني.
([19]) قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره (8/ 451): "وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي»".
([20]) أخرجه أحمد (8748)، والبخاري في الأدب المفرد (712)، وابن حبان (464)، وحسنه الألباني.
([22]) تفسير القرآن العظيم (1/ 509).
([23]) التحرير والتنوير لابن عاشور (2/ 179).
([24]) أخرجه الطبراني في الدعاء (1313)، والبيهقي في شعب الإيمان (3594)، وصححه الألباني.