صلاة التطوع ليلًا- صلاة التراويح - أحكام الوتر - أخطاء متعلقة بصلاة القيام

صورة لمشاركة المدونة صلاة التطوع ليلًا- صلاة التراويح - أحكام الوتر - أخطاء متعلقة بصلاة القيام

بسم الله الرحمن الرحيم
صلاة التطوع ليلًا -
صلاة التراويح - أحكام الوتر - أخطاء متعلقة بصلاة القيام


 

صلاة التطوع ليلًا

أولًا: التطوُّع بالصلاة كله خيرٌ وفيه أجرٌ عظيم.

سواءً كان في الليل أو في النهار، فلا يُزهَد في التطوع بتفضيل شيءٍ على شيء، هذا ينبغي التنبُّه إليه، لكن التطوع بالصلاة في الليل أفضل وأعظم أجرًا.

ثانيًا: صلاة التطوع في الليل أفضل وأعظم أجرًا مِن صلاة التطوع نهارًا.

ويدل على ذلك النصوص الكثيرة في فضل صلاة الليل:

1- قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أهل الجنة: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 17-18] فمن الأعمال التي ينال بها الموحِّدون فضل الله بدخول الجنَّة: الإكثار من الصلاة في الليل وكثرة ذِكر الله في الليل.

2- قول الله عن عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان:64] والحظ هذه اللطيفة في هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ﴾ أصل البيتوتة النوم، وهؤلاء أحبُّ إليهم من النوم الذي يفعله الناس في الليل أن يقوموا الليل؛ ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان:64].

3- قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن المؤمنين: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 16-17] فمدحهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأنهم ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ عن الفُرُش، لأنهم يقومون لله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أي في الجنة، يقول الله في الحديث القدسي: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ‏».

4- قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل:6] والذي عليه أكثر العلماء أن ناشئة الليل هي قيام الليل، ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾ وطئًا يعني ثباتًا وتأثيرًا في القلب، إن قيام الليل أشدُّ ثباتًا في القلب وأشدُّ تأثيرًا في القلب، وأقوم قراءةً؛ ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ يعني أقوم قراءة.

5- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» رواه مسلمٌ.

6- قول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "لاَ تدع قيامَ اللَّيلِ فإنَّ رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانَ لاَ يدعُهُ وَكانَ إذا مرضَ أو كسلَ صلَّى قاعدًا" رواه أبو داود وصحَّحه الألباني؛ أي أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُحافظ على قيام الليل.

7- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ -تُضبط دَأْبُ وتُضبط دَأَبَ؛ يعني الهمزة تُضبط بالسكون وتُضبط بالفتح- الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ -تُضبط مَكْفَرَةٌ وَمكَفِّرَةٌ، جاء هذا الضبط وجاء هذا الضبط- وَمَنْهَاةٌ عَنْ الإِثْمِ» رواه الترمذي وابن خزيمة، وقال الألباني في [إرواء الغليل]: "حسنٌ لشواهده".

8- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوْ الآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه مسلمٌ.

9- أن المسلم إذا خُيِّر في العمل بين السرِّ والعلن كان العمل سرًّا أفضل، وصلاة الليل أشدُّ إخفاءً من صلاة النهار، صلاة النهار يمكن أن يراك الناس، لكن صلاة الليل أشدُ خفاءً فتكون أفضل، ولذلك قرَّر الفقهاء في كتبهم أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.

ثالثًا: قيام الليل في النصف الثاني أفضل مِن قيام الليل في النصف الأول.

ينقسم الليل إلى نصفين، وكيفية تقسيمه نصفين: بأن نحسب ما بين وقت المغرب ووقت الفجر، ثم نقسمه على اثنين، ونضيف الناتج إلى وقت المغرب فيكون هذا النصف الأول، ويبدأ النصف الثاني بعده.

مثاله: لو كان المغرب يؤذِّن الساعة السابعة مثلًا، وكان الفجر يؤذِّن الساعة الخامسة، فهذه إحدى عشرة ساعة، نقسمها على اثنين فتكون النتيجة خمس ساعاتٍ ونصف، نُضيف خمس ساعاتٍ ونصف إلى الساعة السابعة فتنتهي بالثانية عشر والنصف، هذا النصف الأول إلى الثانية عشر والنصف، والنصف الثاني يبدأ من الثانية عشر والنصف إلى الفجر.

إن قيام الليل في النصف الثاني أفضل من قيام الليل في النصف الأول؛ للأدلة الآتية:

1- قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات:18] والسَّحر هو آخر الليل.

2- قول الله عز وجل: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران:17] وهذا في آخر الليل.

3- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» رواه مسلم؛ أي في آخر الليل.

4- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رواه مسلمٌ؛ يعني يشهدها عددٌ أكبر من الملائكة، فصلاة المؤمن في أول الليل أو في آخر الليل مشهودة، لكن صلاة الليل في آخر الليل مشهودةٌ أكثر، قال الني -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «ذَلِكَ أَفْضَلُ».

5- قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا إذا مضى شطر الليل". الحديث رواه مسلم.

6- حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينامً سدسه". متفق عليه.

7- لأنه زمن قيام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الغالب، لأنه ثبت أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قام بعد العشاء، لما صلَّى بالناس في المسجد فإنه في الليلة الأولى صلَّى بهم بعد العشاء إلى الثلث الأول، وفي الليلة الثانية صلَّى بهم بعد العشاء إلى نصف الليل، وفي الليلة الثالثة صلَّى بهم من بعد العشاء إلى قُرْب السحور، فدلَّ ذلك على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أحيانًا كان يُصلي الليل بعد العشاء، لكن الغالب من فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنه يُصلي في آخر الليل.

هذا إذا قسم المسلم ليله نصفين.

أما إذا قسم المصلي ليله أثلاثًا: وكيفية تقسيم الليل أثلاثًا كما قلنا في السابق: يحسب ما بين المغرب والفجر ويقسمها على ثلاثة، إذا جعل الليل أثلاثًا فما هو الأفضل؟ اختلف العلماء في هذا:

القول الأول: فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الوسط أفضل، ما هو الوسط؛ هل هو الثلث الأوسط؟ الجواب: لا، الذي عليه أكثرهم هو الوسط.

 ما هو الوسط؟ السدس: نصف الثلث الأوسط ونصف الثلث الأخير، الذي هو سدس الليل وسدس الليل؛ يعني مركَّب من ثلثين.

نحن قسمنا الليل ثلاث أثلاثًا؛ عندنا الثلث الأول، والثلث الثاني، والثلث الثالث، ما هو الوسط؟ نصف الثلث الثاني الأخير، ونصف الثلث الأخير الأول، هذا هو الوسط.

أي باختصار شديد: نصف الليل الأول ثم يبدأ الوسط إلى أن يبقى من الليل سدس، يعني على حسابنا الأول: نصف الليل الأول ينتهي الساعة الثانية عشر والنصف، ويبدأ الوسط هنا الساعة الثانية عشر والنصف ويستمر إلى أن يبقى سدس الليل قبل الفجر، هذا هو الوسط، وهو الأفضل عند الشافعية والحنابلة.

ماذا يقول لك الشافعية والحنابلة؟

الأفضل إذا كنت تقسِّم الليل أثلاثًا أن تنام أول الليل إلى أن ينتصف الليل، فإذا انتصف الليل قم وصلِّ إلى أن يبقى سدس الليل، ثم نم إلى أن يؤذِّن الفجر؛ واستدلوا بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ» متفقٌ عليه، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ» أي في الليل، أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ في الليل صَلاَةُ دَاوُدَ وما دام أنها أحب الصلاة إلى الله فقطعًا هي أحب الصلاة إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، صلاة داود.

وفي بيان وقتها قال: «كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ الأوَّلُ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ -ثلث الليل-» ثلث الليل الذي يبدأ بانتهاء نصف الليل الأول، «وَيَنَامُ سُدُسَهُ» السدس الأخير من الليل، فهذا نصٌّ صريحٌ في أن أفضل الصلاة في الليل ما كان كذلك.

القول الثاني: قال الحنفية والمالكية: الأفضل أن يُجعَل قيام الليل في الثلث الأخير من الليل، للأدلة الآتية:

1- قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات:18] والسَّحر في الثلث الأخير.

2- قول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» متفقٌ عليه، قالوا: فدلَّ ذلك على أن أفضل أوقات الليل الذي ينزل فيه ربُّنا ويُنادي عباده: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» وهذا في الثلث الأخير. قالوا: إذن هذا أفضل أوقات الليل؛ فهو أفضل ما يُصلَّى فيه الليل.

القول المختار: قول الشافعية والحنابلة؛ لأن الحديث نصٌّ في المسألة، ولأن في قولهم تحصيلًا لما ذكره الحنفية والمالكية، لأن في قولهم يُصلِّي الإنسان بعد نصف الليل الأول فيوافق صلاة داود -عَلَيْهِ السَّلَام-، ويُصلِّي جزءًا من الثلث الأخير فيوافق هذا الوقت الفاضل في نزول ربنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حقيقةً على ما يليق بجلاله في كل ليله؛ فهو إذا فعل ما قاله الحنابلة وافق صلاة داود -عَلَيْهِ السَّلَام-، ووافق جزءًا من هذا الوقت الفاضل الذي أخبر عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

والكلُّ فيه خير، لكن المسألة عن الأفضل، ما هو الأفضل؟ الذي يظهر لي والله أعلم أن الراجح أن الأفضل أن يبدأ الإنسان قيامه بعد نصف الليل الأول، ويستمر لثلثٍ من الليل ثم ينام حتى يؤذِّن المؤذِّن للفجر، هذا الأفضل، وكل هذا كما تعلمون كما قدَّمناه لمن كان لا يخاف أن يغلبه النوم.

أما من كان يخاف أن يغلبه النوم فالأفضل أن يُصلي في أول الليل؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اَللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ».

رابعًا: حكم قيام الليل أكثر مِن ثلث الليل، أو قيام الليل كله:

يجوز للمسلم أن يزيد على الثلث، فيقوم نصف الليل أو ينقص قليلًا أو يزيد عليه قليلًا، لكن لا يجوز للمسلم أنْ يقوم الليل كله على وجه الاستمرار، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قال رجُل مِن الصحابة أما أنا فأقوم ولا أرقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَمَّا إِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

 وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ قيام الليل كله على سبيل الاستمرار مكروه.

القول المختار: أن قيام الليل كله على سبيل الاستمرار حرام، أما أن يحصل أحيانًا أن الإنسان يجتهد ويجد نشاطًا ويقوم الليل كله فهذا لا بأس به ولا حرج فيه.

خامسًا: التراويح تُطلق عند أهل العلم على القيام في رمضان، وبعض أهل العلم يخصُّها بالقيام في جماعة، فصلاتها في جماعة تسمى تراويح، أما في غير جماعة فتسمى قيامًا.

وهناك اسم آخر: وهو التهجُّد، وقد قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء:79]، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾ أي بالقرآن ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾، وقد اختلف العلماء في المقصود بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾؟

فقال بعض أهل العلم: أي زيادةً لك على أمتك من جهة فرض القيام عليك؛ يعني القيام في حقك فريضة وفي حق الأمة مستحب، والمعلوم أن أجر الفريضة أعظم من أجر المستحب.

وقال بعض أهل العلم: معنى ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ أي زيادةً لك، ولأمتك على سائر الأمم.

فما معنى التهجُّد؟

القول الأول: ذهب أكثر الفقهاء إلى أن التهجُّد هو صلاة الليل بعد النوم، فهو الصلاة التي يسبقها نوم، وقال به من المفسرين الطبري والسمعاني والقرطبي وابن كثير.

لقول عائشة رضي الله عنها: الناشئة القيام بعد النوم. قال زهير: ذكره النيسابوري في غرائب القرآن، دون إسناد.

وقال الإمام أحمد: الناشئة لا تكون إلا بعد رقدة، ومن لم يرقد فلا ناشئة له، وقال: هي أشد وطئًا أي: تثبتًا تفهم ما تقرأ وتعي أذنك.

القول الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى أن التهجُّد هو قيام الليل مطلقًا؛ سواء سبقه نوم أو لم يسبقه نوم، بل ذهب بعض العلماء أنه حتى لو كان بعد المغرب فإنه تهجُّد.

والأمر في هذا واسع لا يترتب عليه شيء، إلا أنه اسمٌ شرعي فبينا أقوال العلماء فيه.

سادسًا: يسن للمسلم إذا أراد أن يقوم الليل أن يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين يوجز فيهما؛ وذلك للأدلة الآتية:

1- عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما- قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ لِيُصَلِّى افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، رواه مسلم، فعائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تخبرنا أن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن ينام في أول الليل إذا قام ليصلى من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين.

2- عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرضاه-: «أنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ لِيُصَلِّى افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، رواه مسلم، وهذا من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاجتمع فعله وقوله.

ولكن الشيخ الألباني -رَحِمَهُ اللهُ- حكم على القول بالشذوذ وأنه شاذ، وصحح أنه من كلام أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، لكن الذي يظهر والله أعلم أنه ثابت لا إشكال فيه، والقاعدة أنه لا تعارض بين الرفع والوقف، فتارة يرفعه الراوي وتارة لا يرفعه، إما للعلم بكونه مرفوعًا أو غير ذلك، فلا تعارض بين الرفع والوقف، ولا يقال بالشذوذ إلا عند التعارض، ولذلك نقول صح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قوله وفعله استحباب صلاة ركعتين خفيفتين في بداية قيام الليل.

سابعًا: يستحب للمسلم إذا لم يخف النوم في آخر الليل أي يأخر قيام الليل إلى أخر الليل لما تقدم من فضيلته، فإذا أخره فإنه يستحب له أن ينويه عند نومه، فالإنسان لا يخلو من حالين كما تقدم:

الحالة الأولى: أن يخاف النوم مع أنه إذا نام لا يستيقظ إلا مع الفجر، فهنا فالأفضل له أن يقوم الليل في أول الليل ويوتر في آخر الليل.

الحالة الثانية: إذا لم يخف النوم في آخر الليل، فالأفضل له أن يؤخر قيامه إلى آخر الليل على ما بيناه.

ويستحب له إذا أراد أن ينام أن ينوي أنه سيقوم يصلي؛ ليكتب له أجر القيام سواًء قام فصلى أو لم يقم.

 من فضل الله علينا أن المؤمن إذا أتى فراشه ونوى أن يقوم يصلي من الليل أنه إن قام فصلى كتب الله له ما صلى، وإن غلبته عينه فنام إلى الفجر كتب الله له أجر ما نوى، وذلك لما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ»، وفي رواية: «عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كَتَبَتْ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ»، رواه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني.

هذا الحديث فيه حثٌ لنا على أن ننوي قيام الليل إذا أردنا النوم، هذا ليس خبرًا عن شيء هكذا وإنما النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخبرنا بهذا الفضل لنحرص عليه، لننوي قيام الليل إذا أردنا أن ننام، فيستحب للمسلم أنه إذا أراد أن ينام قبل أن يصلي من الليل أن ينوي بقلبه قيام الليل.


 

أحكام صلاة التراويح

المسألة الأولى: تعريف صلاة التراويح وأسماؤها:

صلاة التراويح: هي قيام الليل في رمضان؛ ولها عدة أسماء، ومنها:

1- تسمى صلاة القيام؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه.

2- تسمى الإحياء؛ لقول أمنا عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-:"إِنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ". فتسمى الإحياء.

3- تسمى صلاة التراويح.

وبعض الفقهاء يخص اسم التراويح بصلاة الليل في رمضان في جماعة، وإذا لم يصل صلاة الليل في جماعة يُسمى قيامًا، ولذلك ستجد أن بعض الفقهاء في كتبهم يقولون: تجوز صلاة التراويح في المسجد والقيام أحبُّ إلينا، يقصدون بالتراويح أن يصلي مع الجماعة قيام الليل في رمضان، ويقصدون بالقيام أن يصلي في بيته في آخر الليل أخذًا من قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما جمع الناس على أُبي قال: "نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل"؛ يعني التي هي الصلاة في آخر الليل. وهذا يُسمى قيامًا في رمضان وفي غير رمضان.

وبعض أهل العلم يخصُّ التراويح بقيام الليل في رمضان في جماعة بعد العشاء، أما إذا كانت تُصلَّى في آخر الليل فلا تسمى عنده تراويح صُليت في جماعة أو لم تُصلَّ في جماعة، وإنما تسمى قيامًا، وهذا اصطلاح؛ يعني تسمية.

لماذا سميت التراويح بهذا الاسم؟

التراويح: جمع ترويحة، وسبب تسميتها تراويح هو أن السلف في زمن الصحابة وفي زمن التابعين كانوا إذا صلُّوا ركعتين يستريحون، ثم يقومون لركعتين أخرى، ثم يستريحون، وبعضهم إذا صلَّى أربعًا يستريح، ليس المقصود أن يصليها سردًا، لكن يصلون ركعتين ثم يقومون فيصلون ركعتين ثم يستريحون.

وكان بعض أهل مكة يُصلون أربع ركعات ثم يقومون ويطوفون، يستريحون بالطواف، ثم يعودون ويصلون أربعًا، ثم يقومون ويستريحون بالطواف؛ لأنها عبادة مشروعة ويستريحون بهذا، فسميت التراويح تراويح.

لماذا يستريحون بعد كل ركعتين؟

لأنهم كانوا يُطيلون القيام والركوع والسجود، حتى روى مالكٌ في [الموطأ] عن عبد الله بن أبي بكر قال: "سمعت أبي يقول: كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر"، يقول: (كنا ننصرف في رمضان) يعني من صلاة التراويح (فنستعجل الخدم بالطعام) يعني بالسحور (مخافة الفجر)؛ يعني أنهم يُطيلون، يبدأون بعد العشاء ويُطيلون إلى آخر الليل.

وروى مالكٌ عن الأعرج قال: "كان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفَّف". يقول: كان الناس يُصلُّون التراويح فإمامهم يقرأ البقرة في ثمان ركعات، أي في كل ركعة ربع حزب في ثمان ركعات، فإذا صلَّى بهم ليلةً -يعني البقرة أو ما يُعادل البقرة- في اثنتي عشرة ركعة قالوا: خفَّف الصلاة.

وأبلغ من هذا: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ربما قام فقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعةٍ واحدة، فكانوا لطول القيام والركوع والسجود يتروَّحون ويستريحون، أما تراويح الناس اليوم فالحقيقة أنه يُحتاج أن يُرتاح من فعلها خاصةً في بعض بلدان المسلمين من سرعتها والإخلال بالخشوع فيها. لكن الاقتصاد مع حصول الطمأنينة لا بأس به، أما العجلة والسرعة فهذه مذمومة.

المسألة الثانية: حكم صلاة التراويح:

أجمع العلماء على سنية صلاة التراويح في رمضان جماعة؛ وذلك لما يأتي:

1- عن عائشةَ رضيَ الله عنها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خَرَجَ ليلةً مِن جَوفِ الليلِ فصلَّى في المسجدِ، وصلَّى رجال بصلاتهِ، فأصْبحَ الناسُ فتَحدَّثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلَّى فصلّوا معَهُ، فأصْبحَ الناسُ فتَحدثوا فكثُرَ أهلُ المسجدِ منَ الليلةِ الثالثةِ، فخرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فصُلِّيَ بصلاتهِ، فلمّا كانتِ الليلةُ الرابعةُ عَجَزَ المسجدُ عن أهلهِ حتى خَرَجَ لصلاةِ الصبح، فلمّا قضَىَ الفجر أقبلَ على الناس فتشهدَ ثمَّ قال: أما بعدُ فإِنهُ لم يَخْفَ عليَّ مَكانُكم. ولكِنِّي خَشِيتُ أن تُفرَضَ عليكم فتعجزِوا عنها. رواه البخاري (1988) ومسلم (1734).

2- عن أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: «صُمْنَا مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حتى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ فقامَ بِنَا حتَى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا في السَّادِسَةِ وقَامَ بِنَا في الخَامِسَةِ حتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا له يا رسولَ الله لو نفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ إنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتى بَقِيَ ثَلاَثٌ مِنَ الشهْرِ وصَلَّى بِنَا في الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ ونِسَاءَهُ فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الفَلاَحَ، قُلْتُ لَهُ: ومَا الفَلاَحُ؟ قالَ: «السُّحورُ». رواه أحمد (21038) والنسائي (1606) والترمذي (800) وقال حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان (2522) وغيره.

3- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ:" خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: "إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ ". رواه البخاري (2010).

وقول عمر رضي الله عنه: "نعم البدعة هذه" إنما قصد بتسميتها بدعة معناها اللغوي؛ يعني: أنها أمر جديد، لم تجر به عادة الناس وعملهم.

وذلك أن جمع الناس في رمضان كل ليلة على إمام واحد باستمرار وانتظام: لم يكن من قبل، فاعتبر ظاهر الحال، وقصد المعنى اللغوي للبدعة، ولم يقصد المعنى الشرعي لها، الذي يعني: استحداث أمر في الدين، وليس منه، مع نسبته إلى الدين؛ فصلاة التراويح من الدين المشروع المندوب إليها، وهكذا صلاتها جماعة: من الأمر المرغب فيه المندوب إليه، وثبت أصله من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله.

وأما البدعة الشرعية: فهي التي لم يدل عليها دليل شرعي.

4- أجمع العلماء على سنية صلاة التراويح – أي صلاة الليل في رمضان جماعة في المساجد- ولم يُنكرها أحدٌ من العلماء، بل لم يُنكرها أحدٌ من الأمة إلا بعض شرار أهل البِدَع، فقد أنكرها شر فرقتين: الروافض والخوارج.

قال النووي: "صلاة التراويح سنَّةٌ بإجماع العلماء، كما أجمع العلماء على أن قيام رمضان مرغَّبٌ فيه أكثر من سائر أيام السنة".


 

المسألة الثالثة: فضل صلاة التراويح:

أولًا: فضل صلاة التراويح عمومًا:

1- أدلة فضل قيام الليل عموما في رمضان أو في غيره – وقد سبق ذكرها قبل قليل-.

2- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفقٌ عليه.

3- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ». رواه الخمسة وصححه الألباني، فهذا حثٌّ على الصلاة -صلاة الليل- جماعة مع الإمام في رمضان؛ لأن الحديث ورد في رمضان، فدلَّ ذلك على أن هذا الأفضل.

ثانيًا: فضل قيام العشر الأواخر خصوصًا:

اتفق العلماء على أن أفضل القيام في رمضان القيام في العشر الأواخر؛ لأنها زمن ليلة القدر، وقد كان السلف يهتمون بصلاة التراويح في النصف الثاني من رمضان أكثر من اهتمامهم بها في النصف الأول؛ يعني يشتدُّ اهتمامهم بالتراويح في النصف الثاني من رمضان، أما قبل العشر الأواخر فللتهيؤ للعشر الأواخر، وأما في العشر الأواخر فلأنها وقت ليلة القدر كما أخبر بذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ويدل على فضل القيام في العشر الأواخر:

1- كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلمٌ.

2- قول النبي عليه الصلاة والسلام: التمسوها – أي ليلة القدر - في العشر الأواخر.

3- قول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-:"إِنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ".

ثالثًا: اختلف العلماء في أيهما أفضل: صلاة التراويح أو صلوات التطوع التي تشرع لها الجماعة؛ كصلاة الكسوف، على قولين:

القول الأول: ذهب الحنابلة إلى أن أفضل صلاة التطوع هي صلوات التطوع التي شُرِعت لها الجماعة ثم صلاة الليل أفضل؛ لحديث أبي هُريرة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِل: "أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟!"، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَفْضَلُ الصَّلَاَةِ بَعْد المَكتُوبِة الصَّلَاَةُ فِي جَوْفِ اللَّيلِ». رواه مسلم، فدلَّ هذا على أن أفضل الصلوات التي يُتَطوع بها بعد صلوات التطوع التي تُشرع له الجماعة صلاة الليل، وأن أفضل صلاة الليل الصلاة في آخر الليل، في جوف الليل.

القول الثاني: ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة الليل أفضل من صلوات التطوع التي تُشرع لها الجماعة؛ استدلالا بظاهر الحديث السابق، فإن ظاهر هذا الحديث أن أفضل الصلوات بعد المكتوبة -يعني بعد الفرائض مباشرة- الصلاة في جوف الليل.

القول المختار: قال الشيخ سليمان الرحيلي القول الثاني قولٌ وجيه، لكن القول الأول أقوى -والله أعلم-.

رابعًا: اختلف العلماء في أيهما أفضل: صلاة التراويح أو صلاة الاستسقاء -بخصوصها- على قولين:

القول الأول: ذهب الحنابلة إلى أن صلاة الاستسقاء أفضل من صلاة التراويح، وأنها على هذا الترتيب: صلاة الكسوف، ثمَّ صلاة الاستسقاء، ثمَّ صلاة التراويح؛ لأنها تسن لها الجماعة.

والدليل على أفضلية صلاة الاستسقاء على صلاة التراويح؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى التراويح جماعةً بالناس ثلاث ليال فقط، بخلاف صلاة الاستسقاء.

القول الثاني: ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة التراويح آكدُ مِن صلاة الاستسقاء؛ وذلك لما يأتي:

1- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ الله وِتْرٌ يُحبَّ الوِتْرَ، فأَوْتِروا يَاَ أَهْلَ القُرْآَنِ». رواه الأربعة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني.

وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل الوتر وأمر به، والوتر من صلاة الليل، بخلاف صلاة الاستسقاء فلم يأمر بها، وإنما وردت من فعله عليه الصلاة والسلام.

2- لأنَّ صلاة التراويح عبادةٌ محضة، أما صلاة الاستسقاء فهي عبادةُ مشروعة للطلب، والعبادة الخالصة أفضل من العبادة المشروعة للطلب.

3- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُكثِر من صلاة التراويح جماعة لعلة؛ وهي أنه خشي أن تُفرض على الأمة، ففهمنا من هذا نصًا أنه لولا هذه العلة لمتَّعهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يُصلي بهم التراويح جماعة، فتكون صلاة التراويح آكد من صلاة الاستسقاء.

القول المختار: اختار الشيخ سليمان الرحيلي أن صلاة التراويح آكد من صلاة الاستسقاء.

المسألة الرابعة: زمان أداء صلاة التراويح.

تسن صلاة التراويح -صلاة الليل جماعةً في المسجد- في رمضان، أمَّا في غير رمضان فلا تشرع الجماعة المقصودة لقيام الليل.

فالاجتماع لقيام الليل في المساجد -في غير رمضان- بدعة؛ لأنَّ صلاة التراويح جماعة في المسجد لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في رمضان -كما في الأدلة السابقة-.

مثاله: لو اتفق بعض الإخوة على الاجتماع في مكان معين أو مسجد معين لصلاة الليل في غير رمضان بشكل دائم فهذا بدعة.

لكن لو صلَّى الرجل في بيته فصلى بصلاته بعض أهله أحيانا فلا حرج؛ "فقد بات ابن عباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- في بيت خالته ميمونة فلما قام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ليُصلِّي قام فصلَّى معه". متفق عليه، ولم يُنكر عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

وصلَّى ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في ليلة. متفق عليه. وصلَّى عوف بن مالك مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في ليلة. رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.

ومثله: لو أنَّ أُناسًا كانوا في نزهة فقام صالحٌ منهم يصلي فسمعه أحدهم فتوضأ وائتمَّ به، فهذا جائز.

أو رجل قام يُصلي من الليل فسمعته امرأته أو ابنه فصلَّى خلفه، لا بأس بذلك.

لكن صلاة الجماعة المقصودة لا تُشرَع إلا لقيام الليل في رمضان.

المسألة الخامسة: مكان أداء صلاة التراويح.

اتفق العلماء على جواز صلاتها في البيت، وعلى جواز صلاتها جماعة في المسجد؛ لما يأتي:

1- عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنها قالت: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ -يعني لم يخرج إليهم-، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: ‏«أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَىَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا» متفقٌ عليه.

2- عن سعيد بن زيد أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى ليالي من رمضان في المسجد فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علِم بهم خرج إليهم فقال: «قَدْ عَرَفْتُ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» رواه البخاري.

إذن دلَّ هذا الحديث على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى الليل في رمضان في بيته وصلَّى في المسجد، فصلَّى ثلاث ليال في المسجد، وصلَّى بقية الليالي في بيته، فدلَّ ذلك على جواز صلاتها في البيت، وعلى جواز صلاتها في المسجد، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إنما قال للناس: «أَيُّهَا النَّاسُ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ»؛ لأنه خشي أن تُفرَض عليهم، فلما مات -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- زالت الخشية، فيجوز للمسلم أن يصليها في البيت، ويجوز له أن يصليها في المسجد.

3- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يعتكف العشر الأوائل في رمضان، فجاءه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، ثم اعتكف العشر الأواسط من رمضان، فجاءه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواخر في رمضان).

أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان أول الأمر يعتكف العشر الأوائل من رمضان، فجاءه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فما دام أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- اعتكف العشر الأوائل من رمضان، فهذا يدل على أنه صلَّى صلاة الليل في رمضان في العشر الأوائل في المسجد، وبقية شهر رمضان في البيت.

ثم اعتكف العشر الأواسط من رمضان، ومعنى هذا: أنه صلَّى الليل في رمضان في هذه العشر الأواسط في المسجد، والعشر الأول والعشر الأخيرة في بيته، فجاءه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواخر في رمضان، فمعنى هذا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى الليل في رمضان في العشر الأواخر في المسجد، وأثبت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- هذا.

إذن من فوائد هذا الذي وقع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: أنه يجوز أن يصلي المسلم كل ليالي رمضان يصلي التراويح في المسجد؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّاها: العشر الأوائل، والعشر الأواسط، والعشر الأواخر.

لكن اتفق العلماء على أنها إذا أُديَّت في المسجد تصلَّى جماعة لفعل الصحابة في زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فقد خرج عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس يُصلُّون أوزاعًا متفرقين؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل ويصلي معه رهطٌ من الصحابة فقال عمر: أرى أني لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، ثم رأى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن المصلِّين بدأوا يتتبَّعون القرَّاء في المسجد بحسب حُسْن الصوت، فعزم على أن يجمعهم على إمامٍ واحد فجمعهم على أُبيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، رواه البخاري.

وبعد ذلك ترك الصحابة أداء صلاة التراويح في المسجد أوزاعًا متفرِّقين، بل يصلونها جماعة في المسجد.

ثم اختلفوا هل الأفضل أن تُصلَّى التراويح أو قيام الليل في رمضان في البيت، أو الأفضل أن تُصلَّى في المسجد؟

القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأفضل أن تصلى في المسجد جماعةً.

قال السرخسي وهو الفقيه الحنفي: "وهو المشهور عن عامة العلماء أن الأفضل أن تصلى في المسجد مع الجماعة".

القول الثاني: ذهب أبو يوسف من الحنفية ومالكٌ إلى أن من قوي على صلاتها في البيت على وجهها المشروع ولم يكسل عنها، فالأفضل أن يصليها في البيت، وإلا فالأفضل أن يصليها مع الجماعة.

واستدلوا بعموم النصوص في فضيلة صلاة النافلة في البيت، أما إذا كان يخاف من الكسل لو صلَّى في البيت فالأفضل أن يصليها مع الجماعة حتى لا يفوته صلاة الليل.

القول الثالث: ذهب الشافعي في القديم إلى أن الأفضل أن يصليها في البيت، لكن قال النووي في [المجموع]: "الصحيح باتفاق الأصحاب أن الجماعة أفضل".

واشترط الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أبو يوسف شرطًا، حيث يقولون: الأفضل أنْ يصليها في البيت على قيودهم التي ذكروها بشرط ألا يؤدي ذلك إلى إطفاء صلاة التراويح جماعة في البلد، فإذا كان كل الناس سيذهبون يصلون في بيوتهم فالأفضل أن تصلَّى جماعة.

قال النووي: "الخلاف فيمن يحفظ القرآن ولا يخاف الكسل عنها لو انفرد، ولا تختلُّ الجماعة في المسجد بتخلُّفه، فإن فُقِد أحد هذه الأمور فالجماعة أفضل بلا خلاف"؛ يعني الخلاف: هل الأفضل أنْ يصلي في المسجد أو يصلي في البيت إنما هو في الأمور الآتية:

الأمر الأول: أن يكون المصلي يحفظ القرآن، أما من لا يحفظ القرآن فبالاتفاق أن الأفضل أن يُصلي مع الجماعة.

الأمر الثاني: أن لا يخاف المصلي الكسل عنها لو انفرد، أما من يخاف الكسل فالأفضل أن يصلي مع الجماعة بالاتفاق.

الأمر الثالث: ألا يؤدِّي تخلُّفه عن صلاتها في المسجد إلى انقطاع الجماعة، فإذا كان يؤدي إلى انقطاع الجماعة فبالاتفاق أن الأفضل أن يصليها في المسجد.

وإنَّما الخلاف السابق فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل لو انفرد، ولا تنقطع الجماعة بصلاته في بيته؛ هل الأفضل أن يصلي في المسجد، أو الأفضل أن يصلي في البيت؟

القول المختار: أنَّ الأفضل أن يصليها في المسجد؛ لما يأتي:

1- لأنه فعل الصحابة في زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما تقدَّم معنا، وهذا في [صحيح البخاري]، قال الماوردي الفقيه الشافعي: "ثم عمِل بها عثمان وعليّ وسائر الأئمة"، ثم عمِل بها -أي صلاة التراويح الجماعة- عمل بها عثمان وعليّ وسائر الأئمة -يعني سائر الحُكَّام- من حُكَّام المسلمين.

2- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ». رواه الخمسة وصححه الألباني، فهذا حثٌّ على الصلاة -صلاة الليل- جماعة مع الإمام في رمضان؛ لأن الحديث ورد في رمضان، فدلَّ ذلك على أن هذا الأفضل.

3- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ‏، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ‏.‏ فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ‏.‏ فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟! فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا‏.‏ قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ فَيَقُولُونَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ‏.‏ فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا‏.‏ فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً‏.‏ قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ‏.‏ فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا‏.‏ فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً‏.‏ فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ‏.‏ فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ‏.‏ فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» متفقٌ عليه.

وجه الدلالة: أن صلاة التراويح فيها الذكر، وفيها التمجيد والتحميد لله، وفيها سؤال الله الجنة، وفيها الاستعاذة بالله من النار، ففيها كل هذا فتدخل في هذا الفضل، وقد قال الله للملائكة: « فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ‏.‏ فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ» لم يجلس ليذكر وإنما له حاجة عند شخص وقعد معهم من أجل الحاجة، فقال الله: «هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»؛ فمن صلَّى مع المسلمين التراويح يُرجى أن يناله الفضل الذي ينزل على المؤمنين؛ «فَهُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»، وهذا لا يحصل لمن صلَّى في البيت.

4- لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى الليل في رمضان في جماعة كما تقدَّم معنا، وإنما ترك ذلك خوفًا من أن تُفرَض على الأمة، وقد زالت هذه العلَّة، فالأفضل للأمة أن تصليها في جماعة.

المسألة السادسة: وقت أداء صلاة التراويح في رمضان:

تقدَّم معنا أن زمان صلاة التراويح هو في شهر رمضان، فلا يُشرَع قيام الليل في جماعة مقصودة إلا في شهر رمضان،

وفي هذه المسألة نتكلَّم عن وقت أداء صلاة التراويح في يوم رمضان، هل تُصلَّى مثلًا بعد العصر، تُصلَّى بعد المغرب، ما هو وقت أدائها في رمضان؟

ذهب الحنابلة وبعض الحنفية إلى أن وقت صلاة التراويح ما بين العشاء والوتر.

توضيح هذا القول: أي أن وقت صلاة التراويح يبدأ بالفراغ من صلاة العشاء، فلا يصحُّ أداؤها قبل صلاة العشاء، فلو أن إنسانًا صلَّى التراويح قبل أن يُصلي العشاء فإنها لا تصح منه تراويح وإنما هي من صلاة الليل كما سيأتي إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

ورتَّب العلماء على هذا: لو أن إنسانًا صلَّى العشاء، ثم صلَّى بعدها التراويح، ثم تبيَّن أن صلاته للعشاء باطلة لسببٍ من الأسباب، فإنهم يقولون: تبطل صلاة التراويح تبعًا، فيُعيد صلاة العشاء، وإذا أراد ثواب صلاة التراويح يُعيد صلاة التراويح، ولا تُجزيه تلك، لأنه بهذا يكون قد صلاها قبل العشاء، ومن صلَّى التراويح قبل العشاء فإنها لا تنعقد تراويح ولا تصحُّ تراويح.

وقولهم: إلى الوتر: أي ينتهي وقتها بصلاة الوتر؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال:«اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» متفقٌ عليه، فآخر صلاة الليل هي الوتر، فإذا صلَّى الإنسان الوتر فقد انتهت صلاة الليل.

مسألة: لو أن إنسانًا أوتر ثم أراد أن يصلي التراويح؛ لأنه نشِط لها، فهل له أن يصلي التراويح بعد أن صلى الوتر عند هؤلاء؟

القول الأول: ليس له ذلك؛ لأنه قد ختم صلاة الليل، ولكن هذا القول ضعيف مخالفٌ لإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم-.

القول الثاني: له أن يصلي صلاة التراويح، لكن الوتر آخر وقت صلاة التراويح قصدًا؛ أي لا يُشرَع للإنسان أن يصلي الوتر ثم يُصلي التراويح قصدًا، فهذا مخالف لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

القول الثالث: قال جمهور الفقهاء: وقتها ما بين العشاء وطلوع الفجر، فوقتها هو وقت قيام الليل، ما بين فراغه من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل لمن صلاها جماعة في المسجد أن يكون ذلك في أول الليل بعد صلاة العشاء؛ لأن هذا هو الذي عليه العمل في زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فإنهم كانوا يصلونها بعد صلاة العشاء، وعلى هذا مضى عمل المسلمين في صلاة التراويح.

وكرِه الأحناف أن يؤخرها إلى خروج وقت صلاة العشاء، لكن الصحيح أنه لا كراهة.

أما من صلَّاها في البيت أو صلَّاها منفردًا فالأمر واسع، والأفضل إذا كان لا يخشى النوم أن يصليها في آخر الليل؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ خَافَ أَلَّا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرُ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرُ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رواه مسلم.

ففي هذا الحديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أرشدنا إلى الأفضل في صلاة الليل لمن كان يُصلي منفردًا، فالأفضل إذا كان الإنسان يخاف أن ينام ولا يستيقظ في آخر الليل أن يصلي حزبه من الليل بعد العشاء مباشرةً، يُصلي العشاء، يُصلي سنَّة العشاء، يُصلي حزبه من الليل، يوتر وينام.

أما إذا كان يرجو أن يقوم من آخر الليل ولا يخاف النوم، فإن الأفضل أن يجعل صلاته في آخر الليل، فإن صلاة الليل مشهودةٌ وذلك أفضل بنص كلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

إذن إذا صليت مع الجماعة فالأفضل للجماعة صلاة التراويح بعد العشاء، وإذا صليت منفردًا وكنت تخاف النوم فالأفضل أن تصلي التراويح بعد العشاء، وإذا صليت منفردًا وكنت ترجو أن تستيقظ في آخر الليل فالأفضل أن تصلي صلاة التراويح في آخر الليل.

مسألة: لو أن الإنسان أوتر في أول الليل ثم استيقظ في آخر الليل ونشِط، هل ينقض وتره السابق ويوتر في آخر صلاته؟

مع أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنْ اللَّيْلِ وِتْرًا» وقال: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ»؟

اختلف الصحابة ومن بعدهم العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه ينقض وتره السابق ويوتر في آخر صلاته، وكيفية نقض وتره السابق أن يأتي بركعة بنيَّة نقض الوتر السابق حتى تصبح شفعًا، كأن صلَّى ثلاث ركعات ثم نام ثم استيقظ يريد أن يصلي من الليل، قالوا: يصلي ركعة بنيَّة أن يضيف هذه الركعة إلى الوتر السابق فيكون صلَّى أربع ركعات، ثم يُصلي ما شاء الله له أن يُصلي، ثم يوتر، وهذا قول جمعٌ من الصحابة والعلماء.

القول الثاني: لا ينقض وتره بل يُصلِّي ما شاء الله أن يصلِّي ولا يوتر، يكتفي بالوتر الأول، وهذا قول جمعٍ من الصحابة والعلماء.

القول المختار: القول الثاني أقرب والله أعلم أنه لا ينقض وتره وإنما يصلي ما شاء الله له أن يصلي، وذلك لأمرين:

1- أنه لو نقض الوتر فإنه في الحقيقة يكون صلِّى الوتر ثلاث مرات؛ لأنه صلَّى الوتر في أول الليل ثلاث ركعات مثلًا ثم نام، ثم قام فصلَّى ركعة واحدة، وهذه وتر، ثم يوتر في آخر صلاته فهذا وترٌ، لكن هو جائز لثبوته عن الصحابة -رضوان الله عليهم-، لكن نقول: الأقرب ألا ينقض الوتر لهذا الوجه.

والوجه الثاني: أن الذي منعه من الوتر في آخر صلاته هنا مانعٌ شرعي وهو أنه قد أوتر، والقاعدة الشرعية: أن من امتنع من شيءٍ للمانع الشرعي وقد نواه وأراده يُثاب عليه، فهذا شرعًا كأنه قد أوتر في آخر صلاته، ويكفيه الوتر السابق.

المسألة السابعة: عدد ركعات التراويح.

وعندنا في هذه المسألة فروع:

الفرع الأول: هل لعدد ركعات التراويح حدٌّ محدود ينتهى إليه شرعًا ولا تجوز الزيادة عليه، وهل يجوز للمسلم في صلاة التراويح أن يزيد على إحدى عشرة ركعة؟

اتفق العلماء على أنه ليس لركعات التراويح حدٌّ محدود، وأن الأمر واسع، وأنه تجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وهذا الكلام فيه أمران:

الأمر الأول: حكم، وهو أنه تجوز الزيادة في التراويح على إحدى عشرة ركعة.

الأمر الثاني: دعوى، وهي اتفاق العلماء على هذا.

وسوف أُقيم الدليل على الحكم والدعوى.

الأدلة على جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وعلى اتفاق العلماء على ذلك:

الدليل الأول: ما جاء عن عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: سأل رجلٌ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو على المنبر، ما ترى في صلاة الليل؟ فقال: «مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أحدكم الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى» رواه البخاري ومسلم.

وفي روايةٍ عند مسلم عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنَّ رجُلًا سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأنا بينه وبين السائل، فقال: يا رسول الله؛ كيف صلاة الليل؟ فقال: «مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَتَ الصُّبْحَ فَصَل رَكْعَةً وَاجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِكَ وِتْرًا» قال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعن أبيه- ثم سأله رجلٌ على رأس الحول، وأنا بذلك المكان مِن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ يعني بعد سنة جاء رجل؛ فسأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأنا بينه وبين الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلا أدري أهو ذلك الرجل أو رجلٌ آخر، فقال له مثل ذلك". رواه مسلم.

إذن هذا الحديث فيه أنَّ رجُلًا جاء فسأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو على المنبر، وهذا يدل على أن السائل أعرابي، ليس مِن أهل المدينة؛ لأن الصحابة ما كانوا يسألون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو على المنبر، وإنما كان يفعل ذلك الأعراب، وهم صحابة رأوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وآمنوا به، لكن هم يأتون من البادية فيقع منهم هذا السؤال.

ووجه الدلالة مِن الحديث: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أطلق ولم يجعل لصلاة الليل حدًّا من جهة العدد، وإنما جعل لها حدًّا من جهة الزمن إلى الصبح، ولو كان هنالك حدٌّ من جهة العدد لبيَّنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كما بيَّن الحد من جهة الزمن، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

فإن قيل: لعل الرجل كان يعلم عدد ركعات صلاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلم يُخبره.

قلنا: هذا بعيدٌ جدًّا؛ لأنَّ هذا السائل أعرابي ليس مِن أهل المدينة، ولا يعرفه ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- بدليل قوله في الرواية الأخرى: "لا أدري أهو الرجل السابق أم رجلٌ آخر"، إذن هو ليس مِن الذين مع الصحابة مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

- فكونه يجهل العدد؛ هو الأقوى.

- وكونه يعلم العدد؛ احتمالٌ ضعيفٌ جدًّا لا يُبنى عليه حكمٌ.

فإن قيل: لعل التحديد بإحدى عشرة ركعة إنما كان بعد هذا السؤال، نحن نتكلم عن الاحتمالات، أي يقول قائل: يمكن أن التحديد بإحدى عشرة ركعة كان بعد هذا السؤال.

قلنا: هذا بعيدٌ جدًّا أبعد مِن سابقه؛ لأن حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-: "ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة في رمضان ولا في غيره" عامّ لكل زمان، فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لصلاة الليل قبل السؤال وبعد السؤال، ومِن البعيد أنْ يُقيَّد هذا الكلام الذي أجاب به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- هذا الأعرابي بفعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في بيته؛ الذي لا يطَّلع عليه الناس.

ثم إنا نقول: ألم يكن صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصلُّون الليل في زمنه؟

الجواب: بلى، كانوا يصلون الليل في زمنه، هل ورد أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- حدَّ لهم عددًا؟ الجواب: لا، لم يرِد، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وفعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على وجه الاستمرار ما كان يطلع عليه الصحابة؛ لأنه كان يفعل ذلك في بيته، وعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- إنما أخبرت عن حاله بعد وفاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

إذن هذا الحديث من السنَّة دليلٌ على أنه لا حدَّ لقيام الليل ومنه التراويح من جهة العدد؛ إذ لو كان هنالك حد لوجب على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يُبيِّنه للسائل، بل إن ظاهر جواب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنه لا حدَّ؛ لأنه قال: «مَثْنَى مَثْنَى مِنَ العِشَاءِ فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ» هذا الأمر الأول.

الدليل الثاني: أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أول الأمر جمع الناس على أُبي بن كعب على إحدى عشرة ركعة، وكانوا يقرأون بالمئين ويتكؤون على العصي من طول القيام، فلما رأى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثِقَل القيام عليهم خفَّف عنهم، فجعل العدد عشرين.

تخريج هذا الأثر:

 

الأمر الأول: الذي يدل على أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جمع الناس على إحدى عشرة ركعة

ما رواه مالكٌ عن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنه أمر أُبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة"، وإسناد مالك في غاية الصحَّة.

الأمر الثاني: الذي يدل على أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جمع الناس على إحدى وعشرين ركعة. وقد دل عليها عدة آثار:

الأثر الأول: روى عبد الرزاق بإسناده أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جمع الناس على إحدى وعشرين ركعة، وإسناده صالحٌ ولا علَّة له، والذين ضعَّفوه ضعَّفوه لأمرين:

العلة الأولى: أن هذه الرواية شاذة، لأنها خالفت الرواية الأقوى منها وهي أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جمع الناس على إحدى عشرة ركعة.

أجيب عنها: لا شذوذ هنا لإمكان الجمع، وإذا أمكن الجمع اندفع الشذوذ، والجمع كما قلنا: أنه في أول الأمر جمعهم على إحدى عشرة ركعة، وفي آخر الأمر جمعهم على عشرين ركعة مع الوتر، وهنا أوتروا ركعةً واحدة، فصارت إحدى وعشرين ركعة، ولا تدفع إحدى الروايتين الأخرى، فلا شذوذ.

العلة الثانية: أن الحافظ عبد الرزاق تغيَّر في آخر حياته وعمِي، وأصبح يُلقَّن.

أجيب عنها: هذه العلة لا يُضعَّف بها الأثر لولا أن الذين ضعَّفوه ظنُّوا شذوذه فقويت عنده هذه العلَّة.

أي: ما عهدنا من العلماء أنهم يُضعِّفون الآثار والأحاديث التي في مصنَّف عبد الرزاق بحُجَّة أنه قد اختلط في آخر حياته، ولا ندري هل هذا الحديث مما كان قبل الاختلاط أو بعد الاختلاط، وذلك لأن اختلاط عبد الرزاق -رَحِمَهُ اللهُ- اختلاطٌ يسير وقد كان في آخر حياته، ولولا أن الذين ضعَّفوا الأثر رأوا أنه شاذ لما قويت عندهم هذه العلَّة.

الأثر الثاني: روى البيهقي بإسناده إلى السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في شهر رمضان بعشرين ركعة، وإسناده صحيح ظاهرٌ في الصحة ولا يُضعَّف بالاحتمالات، ومن ضعَّفه إنما ضعَّفه باحتمالاتٍ لكونه ظنَّ أنه شاذ، فضعَّفه مع شذوذه بأدنى علَّة، وهذا لا يستقيم إذا اندفع الشذوذ، وقد بيَّنا أنه لا شذوذ.

وكونه جاء عن بعض رواته بإحدى عشرة ركعة وبعشرين ركعة وبإحدى وعشرين ركعة لا شذوذ فيه ولا اطراد، وقول بعض أهل العلم: هذا مضطرب لاختلاف العدد لا يستقيم، لأنه يُحمَل على اختلاف الأحوال، فقد جمعهم على إحدى عشرة ركعةٍ في أول الأمر، وعلى عشرين ركعة في آخر الأمر، وإحدى وعشرين ركعة مع عدِّ ركعة الوتر الواحدة، فلا اضطراب.

الأثر الثالث: روى مالكٌ والبيهقي عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمن عمر بثلاثٍ وعشرين ركعة، والإسناد إلى يزيد صحيح، لكن يزيدًا لم يُدرِك زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فهو منقطِع.

الأثر الرابع: روى ابن ابي شيبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري الفقيه المدني الكبير أن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أمر رجلًا يُصلي بهم عشرين ركعة، والإسناد صحيحٌ إلى يحيى بن سعيد، لكن يحيى لم يُدرِك زمن عمر؛ فهو منقطِع.

الأثر الخامس: روى ابن ابي شيبة عن عبد العزيز بن رُفيع قال: كان أُبي بن كعب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث، والإسناد إلى عبد العزيز بن رُفيع صالح، لكن عبد العزيز بن رُفيع لم يُدرِك أُبي بن كعب، فالإسناد منقطِع.

الأثر السادس: روى ابن نصر في قيام الليل عن الأعمش أن ابن مسعود كان يصلي عشرين ركعةً ويوتر بثلاث، والإسناد إلى الأعمش صحيح، غير أن الأعمش لم يُدرِك ابن مسعود، فهو منقطع.

فهذه أربعة آثار جميعها فيها انقطاع لكن يشدُّ بعضها بعضًا على طريقة المحدِّثين، ولا يُرَدُّ هذا الاحتمال بأنهم يمكن أنْ يكونوا أخذوا عن شيخٍ واحد، فإن هذا احتمالٌ مجرد ليس عليه دليل، فهذه الأسانيد وإن كان فيها انقطاع على طريقة المحدِّثين تصلح أنْ يشدَّ بعضها بعضًا.

وعلى أقل تقدير فإنها تدل على أمرٍ عظيم وهو: أنَّ المشهور في ذلك الزمان القريب مِن زمن الصحابة أن الصحابة كانوا يصلون عشرين ركعة، هذا لا شك فيه، لا يمكن لأحد أنْ يدفع أنَّ المشهور في ذلك الزمان القريب مِن زمن الصحابة -رضوان الله عليهم- أنَّ الصحابة كانوا يُصَلُّون عشرين ركعة، وعلم أولئك بفعل الصحابة أقوى مِن علم المتأخرين.

ويشدُّ هذا أيضًا: أن كثيرًا من علماء الحديث والفقهاء قد تلقّوا الروايات عن الصحابة بالعشرين بالقبول، كثير من كبار المحدِّثين تلقوا الرواية عن الصحابة بالعشرين بالقبول؛ لأن الروايات يشدُّ بعضها بعضًا عندهم.

وكل هذا وإن لم يجعلنا نجزم بثبوت الرواية بالعشرين إلا أنه يجعل الظن غالبًا بثبوتها، ويجعل الظن غالبًا أن لها أصلًا.

وأنا أقول: لولا أن الذين ضعَّفوها فرادى قد رأوا أن فيها شذوذًا لما ضعَّفوها؛ لأن طريقة المحدِّثين تقتضي هذا، لكن قويت تلك العلل عندهم لما ظنُّوا الشذوذ.

الدليل الثالث: الذي يدل على الحكم والاتفاق أنا نقرر ونكرر أصلًا مهما؛ ألا وهو فهم نصوص الكتاب والسنَّة بفهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم-، فهذا فصل ما بين أهل السنة وبين أهل البِدَع، ولم نجد أحدًا من السلف أنكر الزيادة على إحدى عشرة ركعة، أو قال: إن الزيادة بدعة، بل المنصوص عنهم قولًا وعملًا التوسعة في عدد ركعات التراويح.

فإنكار الزيادة على إحدى عشرة ركعة والقول: إن الزيادة بدعة ليس من فهم السلف للسنَّة، فلا نعلم أحدًا من السلف بل من العلماء قال: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة قبل الصنعاني، أكثر من ألف ومئتين سنة والأمة لا يوجد أحد قال: إنها بدعة، والصنعاني قال قولًا لا يُقرُّ عليه بل يُردُّ عليه ولا يوقف عنده؛ لأنه رأى أن اجتماع الناس في التراويح في المساجد بدعة ابتدعها عمر ولا يُمدَح شيءٌ في البدعة، فوافق ما ذهب إليه الخوارج والروافض.

فإن قال قائل: كيف تقول: إنه لم يقل أحدٌ من السلف: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة ممنوعة وأن الزيادة بدعة وقد جاء عن مالك ما يدل على ذلك، ومالك من أئمة السلف؟

قلت لك: أين قال مالكٌ ذلك؟ فقولك روى السيوطي عن رجلٍ من الشافعية أن مالكًا قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحبُّ إليَّ وهو إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قيل لك: إحدى عشرة ركعةً بالوتر؟ قال: نعم، ولا أدري من أين أُحدِث هذا الركوع الكثير، فتقول: هذا مالك قال: أحب إليّ إحدى عشرة ركعةً ولا أدري من أين أُحدِث هذا الركوع الكثير.

أجيب عنه: حنانيك، أثبِت العرش ثم انقُش، مَن الذي روى هذا عن مالك؟ رواه رجلٌ من الشافعية ليس من العلماء المشاهير، وليس ممن أخذوا عن مالك، وإنما من علماء الشافعية نسب هذا الكلام إلى مالك، وهذا الكلام لم يثبت بطريقٍ صحيح، بل المنقول عن مالكٍ من أصحابه يردُّه، بل في [المدونة] نصوص مالك تُكذِّب هذه الرواية وتدفع هذه الرواية، فإن الإمام مالكًا استحب أن تُصلي التراويح ستًّا وثلاثين ركعة ثم يوتر.

وهذه نصوصٌ صحيحةٌ صريحةٌ عن مالك في [المدونة]، فكيف يُردُّ قول مالك هذا الصحيح الثابت عن مالكٍ بتلك الرواية التي لا خِطام لها ولا زمام؟

بل إنَّ صنيع الإمام مالك في [الموطأ] يُشعر بأنه لا ينكر الزيادة، ثم لو فرضنا أن هذا الكلام ثابتٌ عن مالك فإن كلام مالكٍ يُفسَّر بكلام مالكٍ، وكلام مالك يُبيِّن أنه لا يريد هنا لو ثبت عنه أنها بدعة، لكن أنه يرى لو ثبت ولم يثبت أن الأحسن أن تصلى إحدى عشرة ركعة، ولم يثبت هذا عن مالك، الذي ثبت عن مالك أن الأحب إليه أن تصلَّى ستًّا وثلاثين ركعة.

وأما ما نُسِب لابن عربي المالكي فمع كون ابن عربي المالكي ليس من الفقهاء المجتهدين بل هو مقلِّد، وليس من السلف، لكن نقول: مع ذلك فإن ابن عربي قد نصَّ نصًّا صحيحًا واضحًا في أنه لا حدَّ لصلاة التراويح.

إذن لم يثبت عن أحدٍ من السلف يقينًا أنه قال: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة، بل لم يثبت عن أحدٍ من العلماء قبل الصنعاني، إذن نحن نقول: إن السنَّة تُفسَّر بفهم السلف، وفهم السلف للسنَّة التوسعة وليس الحد.

الدليل الرابع: أن العلماء مجمعون إجماعًا عمليًّا متينًا على الزيادة، فقد ثبت عن الأمة أنهم يُصلون التراويح زيادةً على إحدى عشرة ركعة في مختلَف الأمصار من قديم الزمان، ولم يُنكر عليهم عالِم، بل العلماء يُقرُّونهم بل وينصُّون على الزيادة، ومن المحال أن تجتمع أمة محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على عمل ضلالة ولا يُنكر أحد من العلماء.

ومن المحال أن يكون الحقُّ خفيًّا؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ» فلا يمكن يأتي أحد يقول: يمكن أن عالمًا أنكر لكن ما سمعنا، هذا لا يصلح لأمرين:

الأمر الأول: أنَّ الحق لا بد أنْ يكون ظاهرًا.

والأمر الثاني: أن هذا الأمر يتعلق به دين، فلو وقع لنُقل إلينا يقينًا؛ لأنَّ الله حفِظ دينه.

فإن قال قائل: أثبِت لنا أن الأمة من قديم الزمان على جواز الزيادة من غير نكير.

قلنا له: يمكن إثبات ذلك من خلال الآتي:

أولًا: أن أهل مكة من قديم وهم يُصلُّون ثلاثًا وعشرين ركعةً بالوتر، وقد نقل ذلك العلماء ولم يُنكروه، ومنها:

1- روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح إلى عطاء بن أبي رباح أن عطاء قال: "أدركت الناس -يعني وهم في مكة- وهم يُصلُّون ثلاثًا وعشرين ركعةً بالوتر".

ولم يقل: أحدَث الناس، يقول: أدركت الناس، إذن هذا الأمر كان معمولًا به من قبل، وهذا لا شك أنه كان في زمن الصحابة.

وعطاء بن أبي رباح: أحد كبار فقهاء التابعين أدرك أكثر من مئتين من الصحابة، فقيه مكة وفقيه الحج، حتى أنه كان يُنادى في زمنه في أيام الحج: لا يُفتي في الحج إلا عطاء.

بل ثبت أنه كان في مكة في زمن عطاء بن أبي رباح مئتا صحابي، مئتا صحابي كانا في مكة في زمن عطاء بن أبي رباح، وعطاء يقول: "أدركت الناس يُصلُّون ثلاثًا وعشرين ركعةً بالوتر" فلو كان هذا منكرًا لأنكره الصحابة الذين كانوا في مكة في هذا الزمان، أو أنكره عطاء وهو العالِم الكبير، أو أنكره العلماء، لكن لم يُنقَل لنا حرفٌ واحدٌ في الإنكار.

2- روى ابن أبي شيبة أيضًا عن وكيعٍ عن نافع بن عمر الجُمَحي القرشي المكي، قال: كان ابن أبي مُليكة يُصلِّي بنا في رمضان عشرين ركعة، في مكة.

 وصلاة ابن أبي مُليكة بالناس في رمضان امتدَّت من زمن الزبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز، ولم يُنكر عليه عالِم ولا إمام ولا خليفة.

ثانيًا: كان أهل المدينة يزيدون مِن قديم الزمان على إحدى عشرة ركعة؛

1- جاء في [المدونة] عن ابن وهبٍ عن عبد الله بن عمر بن حفصٍ عن نافعٍ قال: "لم أُدرِك الناس إلا وهم يقومون تسعةً وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث".

 نافع مولى بن عمر دخل المدينة وابن عمر فيها، يقول: "لم أُدرِك الناس -يعني في المدينة- إلا وهم يصلُّون تسعةً وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث".

2- روى ابن أبي شيبة عن داود بن قيس قيام أهل المدينة بتسعٍ وثلاثين ركعة.

ثالثًا: أمَّا التابعون الكبار، فالروايات الصحيحة عنهم في الزيادة على إحدى عشرة ركعة كثيرةٌ جدًّا روى ابن أبي شيبة بعضها، وقد نقل الأئمة الكبار ذلك عن زمنهم وما قبله:

1- قال الإمام مالك: "أستحبُّ أن يقوم الناس في رمضان بثمانٍ وثلاثين ركعة، ثم يُسلِّم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة"، ثم قال: "وهذا العمل بالمدينة قبل الحرَّة منذ بضعٍ ومئة سنة إلى اليوم"، هذا يقوله الإمام مالك كما نقله عنه ابن نصرٍ بإسناده.

2- جاء في [المدونة] قال مالكٌ: "بعث إليّ الأمير -يعني أمير المدينة- وأراد أن ينقص من قيام رمضان الذي كان يقومه الناس في المدينة" قال ابن القاسم وهو تلميذ مالك قال: "وهو تسعةٌ وثلاثون ركعةً بالوتر؛ ستٌّ وثلاثون ركعة والوتر ثلاث" يعني ابن القاسم يفسِّر العدد الذي أراد الأمير أن يُنقصه، قال مالكٌ: "فنهيته أن ينقص من ذلك شيئًا وقلت له: هذا ما أدركت الناس عليه وهذا الأمر القديم الذي لم تزل الناس عليه".

إذن الإمام مالك يقول: صلاة تسعٍ وثلاثين ركعة هذا الذي أدركت الناس عليه في المدينة، ولم يزل عليه عمل أهل المدينة من قديم.

3- قال الترمذي في [السنن]: "قال الشافعي: أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة".

4- قال الشافعي في [الأم]: "فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرِد أحبُّ إليَّ منه" هذه الجملة اختلف فيها أصحاب الشافعي ما معناها (فصلاة المنفرِد أحبُّ إليَّ منه)؟ 

وقال أكثرهم: معناها أن السنن الرواتب التي تُصلَّى من غير جماعة أفضل من التراويح؛ يعني من باب التفضيل بين النوافل.

وقال بعضهم: بل مراده أن صلاة التراويح في البيت أحب إليه من صلاتها في المسجد.

قال:"ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسعٍ وثلاثين وأحبُّ إليَّ عشرون؛ لأنه رُوي عن عمر وكذلك يقومون بمكة ويوترون بثلاث".

5- قال إسحاق بن راهُويه -وبعضهم يقول: رَاهَويْه- في [المسائل]: "أهل المدينة لم يزالوا من لدن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى زماننا هذا يصلون أربعين ركعة في قيام شهر رمضان يُخففون القراءة، وأما أهل العراق فلم يزالوا من لدن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى زماننا هذا على خمس ترويحات" يعني كم ركعة؟ تعني عشرين؛ لأنهم كانوا يتروحون بعد كل أربع يسمونها ترويحة؛ أربعة في خمسة بعشرين، يعني على عشرين.

وغير هذا عن الأئمة كثير، فإذا لم يكن ذلك منتهضًا للدلالة على إجماع الأمة على جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة فلن يكون هناك إجماع، هذا إجماع ظاهرٌ جدًّا، ولذا قال الحافظ بن عبد البر: "أجمع العلماء على أنه لا حدَّ ولا شيء مقدَّرًا في صلاة الليل وأنها نافلةٌ؛ فمن شاء أطال فيها القيام وقلَّت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود".

وهذا إجماعٌ متين من هذا العالم المعروف بمعرفته بالخلاف، ولم يُنقَض هذا الإجماع بنقلٍ واحد، فلا أحد استطاع أن يأت بنقلٍ واحد ينقض هذا الإجماع؛ فهذا يدل على ما قرَّرناه من أن الزيادة على إحدى عشرة ركعة جائزة باتفاق العلماء، وبنور الأدلة.


 

الفرع الثاني: الأفضل في عدد ركعات التراويح.

بعد أن تقرر عندنا أن الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح جائزةٌ بلا إشكال، فما هو الأفضل في عدد ركعات التراويح؟

اختلف العلماء في هذا على أقوالٍ أوصلها بعض أهل العلم إلى ستة، والمشهور منها قولان:

القول الأول: أن الأفضل عشرون ركعةً بغير الوتر، ثم يُضاف إليها الوتر بركعةٍ على الراجح أو بثلاث أو بغيرها، لكن المعمول به أنه يُضاف لها ركعة فتصبح إحدى وعشرين، أو يُضاف لها ثلاث ركعات فتصبح ثلاثًا وعشرين، وهذا مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض المالكية.

وهم يقولون بجواز النقص، وجواز الزيادة، لكن الأفضل عندهم عشرون ركعة.

القول الثاني: ذهب المالكية وهو منصوص الإمام مالكٍ -رَحِمَهُ اللهُ- إلى أن الأفضل ستٌّ وثلاثون ركعةً بغير الوتر، والوتر ثلاث، فتصبح تسعًا وثلاثين ركعةً.

وقيل: غير ذلك.

القول المختار: والله أعلم: أن الأفضل في صلاة التراويح وفي غيرها من قيام الليل إحدى عشرة ركعة مع الوتر، مع طول القيام وطول الركوع وطول السجود وذلك إذا كان الإمام يُطيق هذا وكان الذين يصلون معه يُطيقون هذا؛ لأن هذا هو الذي ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عددًا وصفةً، فقد قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-:"ما كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولَا في غيرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا". متفقٌ عليه.

فأمنا عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حكت لنا صلاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- الليل في رمضان وفي غير رمضان أنه كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لا يزيد على إحدى عشرة ركعة مع وصف صلاته:

- أنه كان يصلي أربع ركعات؛ أي يصلي ركعتين ويُسلِّم، ثم يصلي ركعتين ويُسلِّم، وهذه الأربعة متشابهةٌ في طول قراءتها وطول ركوعها وطول سجودها.

- ثم يُصلي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أربع ركعات؛ أي أنه يصلي ركعتين ويُسلِّم، ثم يصلي ركعتين ويُسلِّم، وهذه الأربع متشابهةٌ في طول قيامها وركوعها وسجودها، غير أنها أقصر من الأربع الأول.

- ثم يصلي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ثلاثًا.

أما إذا كان يشقُّ عليهم طول القيام وطول الركوع والسجود فالأفضل أن يزيد في عدد الركعات وأن يُخفِّف في طول القيام والركوع والسجود؛ وذلك لما يأتي:

1- أن هذا جرى عليه العمل في أمة محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

2- لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.

3- لأن التخفيف في القيام مع زيادة عدد الركعات في حال مشقة طول القيام والركوع والسجود يُشجِّع الناس على صلاة التراويح، وهذا أمرٌ مطلوبٌ شرعًا.

فهذا هو الذي يظهر؛ فمن كان في بلد وكان يستطيع أن يصلي إحدى عشرة ركعة مع إطالة القيام والركوع والسجود فهذا أفضل له من أن يُصلي عشرين ركعة، أو يصلي ستًّا وثلاثين ركعة، بشرطين:

الشرط الأول: ألا يؤدي هذا إلى إملال الناس وإلى المشقة عليهم.

والشرط الثاني: ألا يؤدي هذا إلى الفتنة وكثرة النزاع والكلام بين المسلمين.

- فإذا كان هذا يؤدي إلى المشقة على الناس أو يؤدي إلى الفتنة فإنه يُترَك ويُختار الزيادة في عدد الركعات، هذا إذا كان يصلي للناس؛ أي يكون إمامًا للناس.

- أما إذا كان يُصلي بمفرده فله أن يختار لنفسه الإحدى عشرة ركعة ولو شقَ ذلك عليه على الراجح من أقوال أهل العلم.

وإن كان كثيرٌ من العلماء يقولون: إذا شقَّ عليه فالأفضل اتباعًا لقواعد الشريعة أن يُخفِّف عدد الركعات، لكن لما رأينا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُطيل القيام حتى تفطَّرت قدماه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- علِمنا أن الإنسان له أن يختار طول القيام مع قلَّة عدد الركعات لنفسه ولو شقَّ ذلك عليه، فيصبر على هذا كما كان الناس في زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أول الأمر يفعلون هذا، ثم لما شقَّ ذلك على الناس خُفِّف عنهم في عدد الركعات على الراجح.

الفرع الثالث: هل التزام عددٍ معينٍ في ركعات التراويح غير الإحدى عشرة ركعة بدعة؟

إذا التزم المسلمون في مسجدهم أو بلدهم أن يصلوا عشرين ركعةً في كل ليلة أو يصلوا ستًّا وثلاثين ركعة في كل ليلة ثم يوترون، هل هذا بدعة؟

الجواب: أن هذا ليس بدعةً سواءً التزموا عشرين ركعة أو التزموا ستًّا وثلاثين ركعة أو غير ذلك، والدليل على أنه ليس بدعة: اتفاق العلماء على جواز ذلك:

- فإن أهل مكة كانوا يلتزمون عشرين ركعة وقد أدركهم عطاء بن أبي رباح على هذا، وأدركهم الشافعي على هذا.

- وكان أهل المدينة يلتزمون ستًّا وثلاثين ركعة وقد أدركهم نافع مولى ابن عمر على هذا، وأدركهم مالكٌ على هذا من غير نكيرٍ من الأئمة.

فلم أقِف بعد طول فحصٍ وكثرة قراءةٍ على من أنكر الالتزام من أهل العلم -أعني في هذه المسألة، أعني في عدد ركعات التراويح-، ولو كانت بدعة لأنكرها بعض العلماء؛ لأن أمة محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لا تجتمع على ضلالة.

إلى أيِّ أصلٍ يرجع هذا الالتزام؟

هذا الالتزام يرجع إلى واحدٍ من الأصول التالية:

الأصل الأول: فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- عند من يُصحِّح الروايات كما قواها أهل العلم، فيكون أصل الالتزام فعل الصحابة في زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفعل ابن مسعود مثلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنهم التزموا عشرين ركعة، وهذا أصلٌ، لكن لاحظوا أن قيَّدنا عند من صحَّح الروايات.

الأصل الثاني: أن هذا راجعٌ إلى أصل العمل في الحرمين مع توافر العلماء من غير نكير، فكان أهل مكة يلتزمون عشرين ركعة مع توافر العلماء في ذلك الزمان من غير نكير، وكان أهل المدينة يلتزمون ستًّا وثلاثين ركعة مع توافر العلماء في ذلك الزمان من غير نكير، فيكون هذا أصلًا لالتزام عددٍ معينٍ في ركعات التراويح.

الأصل الثالث: السياسة الشرعية حيث يختار ولي الأمر الأرفق بالمسلمين من الصور الجائزة، والسياسة الشرعية في مثل هذا جائزة ما دام أن ولي الأمر يختار للمسلمين الأرفق بهم والأصلح من الصور الجائزة.

 لاحظوا لو جعل لهم شيئًا ليس جائزًا فإنه لا يُلتفت إليه، ولكن ما دام أن الزيادة جائزة فاختيار ولي الأمر صورة من الصور الجائزة من باب السياسة الشرعية الصحيحة.

يقول الشيخ سليمان الرحيلي: (ومع قولنا بجواز الالتزام بعدد معين في صلاة التراويح فإن الذي يظهر لي والله أعلم أن السنَّة في صلاة الليل في رمضان وفي غير رمضان عدم التزام عددٍ معين، فالأفضل ألا يُلتزم عددٌ معين؛ لأنه ثبت أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى خمسًا من الليل، وثبت أنه صلَّى سبعًا، وثبت أنه صلَّى تسعًا، وثبت أنه صلَّى إحدى عشرة ركعة، فلم يكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يلتزم عددًا معينًا في جميع لياليه، وإنما كان يفعل هذا تارةً، وهذا تارةً، وهذا تارةً، وكان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة؛ فالأفضل عدم التزام عددٍ معين، وإنما يُفعل هذا تارة وهذا تارة، وهو كما قلنا فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولأنه أبعد عن الشبهة.

ولذلك لو أن مسلمًا يُصلي مع الإمام ولا شك أن الأفضل له أن يبقى مع الإمام حتى ينصرف، وكان الإمام مثلًا كما عندنا اليوم في الحرمين بل في أكثر أقطار المسلمين أنهم يُصلون ثلاثًا وعشرون ركعة، فإن الأفضل أحيانًا أن يزيد الإنسان على ذلك، وهذا ما أختاره لنفسي، فأحيانًا إذا أوتر إمامنا في المسجد النبوي وسلَّم أقوم ولا أُسلِّم، فأجعلها شفعًا ثم أُصلِّي ركعتين مثلًا ثم أوتر، بحيث لا يحصل أصل الالتزام، وإن كنا نعتقد أن أصل الالتزام ليس ممنوعًا، ولكن الأقرب إلى السنَّة بل السنَّة ألا يُلتزم عددٌ معين.

ولذلك لا ينبغي التشدُّد في مسألة التزام عددٍ معين في عدد ركعات التراويح؛ لأنا لا نعلم أحدًا من العلماء السابقين أنكر هذا، لكن العمل بما تدل عليه السنَّة في هذا الباب هو أحسن وأكمل.)

الفرع الرابع: الأفضل لمن صلَّى مع الإمام التراويح.

الجواب: أن الأفضل لمن صلَّى التراويح مع الإمام أن يبقى مع إمامه حتى ينصرف سواءً صلى إمامه إحدى عشرة ركعة أو صلَّى ثلاثًا وعشرين ركعة، أو صلَّى تسعًا وثلاثين ركعة، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لأصحابه في رمضان: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» رواه الخمسة وصحَّحه الألباني، وهذه السنَّة لمن صلَّى مع إمام، ولا نعرف سنَّةً غيرها له.

لكن يجوز لمن صلَّى مع الإمام أن ينصرف قبله، فيجوز للمسلم أن يصلي ركعتين ثم ينصرف، ويجوز للمسلم أن يصلي عشر ركعات ثم ينصرف، لكن اعتقاد أن الانصراف هو السنَّة خطأٌ لا يصح؛ فإن السنَّة لم تأتِ بالانصراف، وإنما جاءت بغيره وهو البقاء مع الإمام حتى ينصرف.

فنسبة الانصراف قبل انصراف الإمام إلى السنَّة خطأ، نعم من كان يعتقد أن الزيادة لا تجوز ينصرف، لكن لا ينسبها إلى السنَّة؛ لأن النسبة إلى السنَّة تحتاج إلى دليل ولم نجد دليلًا في صلاة المصلي خلف الإمام إلا دليلًا واحدًا وهو أن يبقى مع إمامه حتى ينصرف، فهذه السنَّة، ومن انصرف قبل ذلك فقد فعل جائزًا ولم يفعل منكرًا ولا يُعاب ولا يُتشدَّد عليه، لكن الأفضل أن يبقى مع الإمام حتى ينصرف الإمام.

فإن قال قائل: إنهم اليوم في الحرمين يصلون بإمامين فيصلي الإمام الأول عشر ركعات، ويُصلي الثاني عشر ركعات، فأنا أقوم مع الإمام حتى ينصرف وهو الإمام الأول أو الإمام الثاني.

قلنا: إن هذا الفهم لا يستقيم؛ لأن الصلاة واحدة، والإمام ليس باسمه، وإنما بوصفه، فالإمامان إمامٌ لصلاةٍ واحدة وليست صلاتين في وقتٍ واحد.


 

الفرع الخامس: حكم جعل صلاتين في المسجد الواحد لجماعةٍ واحدة في رمضان كله أو في العشر الأواخر.

ما حكم أن نصلي بعد العشاء التراويح ثم نذهب إلى البيوت، ثم نرجع في آخر الليل ونصلي جماعةً ونحن جماعة واحدة؟ وقولنا: جماعة واحدة يُخرِج ما لو جاء قومٌ آخرون فصلوا جماعةً، هذا أمر لا يدخل معنا، لكن القضية أن تُصلى صلاتان لجماعةٍ واحدة. وهذا يُسمى عند الفقهاء بالتعقيب.

تحرير محل النزاع:

أولا: اتفق العلماء على أنه يجوز للإنسان أن يصلي ما شاء منفردًا بعد أن يصلي مع الإمام؛ فإذا صليت مع الإمام حتى أوتر وقمت لم تُسلِّم من الوتر، شفعت الوتر، لك أن تصلي منفردًا ما شئت في بيتك في المسجد، باتفاق العلماء إلا عند من يمنع الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وهذا كما قلت لكم: لم نعرفه لأحد من العلماء المتقدمين، أو من يمنع الصلاة بعد الوتر إن أوتر، أما إذا لم يوتر فإنهم لا يمنعون.

ثانيا: اختلفوا فيمن صلَّى التراويح تامةً مع الإمام ثم يُصليها مرةً أخرى مع جماعةٍ أخرى في نفس المسجد أو في مسجدٍ آخر، الخلاف يُصلي التراويح تامة في جماعة وبعدما ينتهي منها يُصليها مرةً أخرى مع جماعةٍ أخرى في نفس المسجد أو في مسجد آخر.

مثلًا أنا أعرف أن الصلاة في المسجد النبوي صلاة التراويح بعد العشاء، وأن هناك مسجدًا في المدينة يُصلون آخر الليل، فأُصلي التراويح تامة في المسجد النبوي، ثم أذهب إلى ذلك المسجد فأُصلِّي معهم مرةً أخرى التراويح في آخر الليل، سواء في مسجدٍ واحد أو في مسجدين.

وقد اختلف العلماء في هذا الفعل:

القول الأول: ذهب الحنفية إلى تحريم ذلك، فالسنن عندهم لا يجوز تكرارها، تُفعل مرة واحدة، ما دمت صليت التراويح وهي سنَّة تامة فلا يجوز أن تكررها مرةً أخرى في نفس الليل.

القول الثاني: ذهب كثيرٌ من الفقهاء إلى كراهية ذلك.

القول الثالث: ذهب الحنابلة في المذهب إلى جواز ذلك، فإنهم يرجعون إلى خيرٍ يطلبونه في صلاة التراويح، أو إلى شرٍّ يستعيذون منه.

القول المختار: أن جعل صلاتين تامتين مستقلتين في جماعةٍ واحدة لا أصل له، فهو غير مشروع، بل تكفي صلاةٌ واحدة لقيام الليل كله.

ودليل ذلك:

1- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لما صلَّى بالصحابة حتى ذهب نصف الليل، قالوا له: يا رسول الله؛ لو نفَّلتنا بقية ليلتنا، زِدنا، نفِّلنا بقية الليلة، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» رواه الخمسة وصحَّحه الألباني.

2- لأن هذا هو المعمول به من زمن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنه يُقتصر على صلاةٍ واحدةٍ في الجماعة، فلا يُزاد عليها.

ثالثا: تقسيم الصلاة الواحدة إلى أول الليل وإلى آخر الليل، بأن يُصلي الإمام بالناس في أول الليل عددًا من ركعات التراويح، ثم يعود مع الجماعة في آخر الليل ليُصلي بهم عددًا من ركعات صلاة التراويح، ويوتر في آخر صلاته، فهذه صلاةٌ واحدة، وتسمى التعقيب، وهي جائزة.

كما يُفعل اليوم في الحرمين، في العشر الأواخر يُصلي الأئمة بنا عشرين ركعة بدون وتر، ثم نذهب نتعشى ونستريح ونرجع ونُكمل الصلاة، فهذه صلاةٌ واحدة، وهذه جائزة،

1- حديث ابن عباس، أنه بات عند خالته ميمونة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء الآخرة فصلى أربعا، ثم نام، ثم قام فقال: "أنام الغلام؟" - أو كلمة نحوها -قال: فقام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه، ثم صلى خمسا، ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو خطيطه -ثم خرج فصلى. أخرجه أحمد بهذا اللفظ برقم (3169)، وهو عند البخاري في صحيحه برقم (859) بلفظ قريب لا يغير المعنى.

فتأمل هذا الحديث كيف فصل صلى الله عليه وسلم بين صلاتيه بنوم، وهذا صريح في الجواز والسنية، مع أننا نسلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتزم الفصل بين صلاة آخر الليل وأوله بنوم ونحوه، بل كان الغالب من فعله في غير رمضان، التهجد والقيام بعد النوم، لكن دعوى أنَّه لم يفصل قطُّ باطلة ليس عليها دليل، بل الدليل خلاف ذلك كما في هذا الحديث.

2- لأنها من الاجتهاد في العشر الأواخر، وقد قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-:" كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها -أو في غيره-". رواه مسلمٌ.

وقالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-:" كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ". رواه البخاري.

فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يزيد في طول صلاته في العشر الأواخر حتى يكاد يُحيي ليله كله، فهذا من هذا.

اتفق العلماء على جواز القيام في جميع أوقات الليل، لأن الشارع الحكيم لم يخص وقتا من الليل للقيام دون وقت، بل أطلق ذلك ووسع، فلا يختلف آخره عن أوله من حيث الجواز، وإن اختص آخره بمزيد فضل وبركة، وهذا أمر لا خلاف فيه، فكيف يدعى أن الفصل بين التراويح والقيام بدعة.

وفي هذا يقول الإمام إسحاق بن راهوية في مسائل الإمام أحمد وإسحاق: "أما الإمام إذا صلَّى بالقوم ترويحةً أو ترويحتين -الترويحة عند أهل العلم صلاة أربع، أو ترويحتين أي صلَّى ثمان ركعات- ثم قام من آخر الليل فأرسل إلى القوم فاجتمعوا فصلَّى بهم بعدما ناموا، فإن ذلك جائزٌ إذا أراد به قيام ما أُمر أن يُصلي من التراويح"؛ يعني إذا أراد به صلاةً واحدة، ثم قال:"فأما أن يكون إمامٌ يُصلي بهم أول الليل تمام الترويحات، ثم يرجع في آخر الليل فيُصلي بهم جماعة فإن ذلك مكروه".

فتلحظون أن إسحاقًا فرَّق بين الصورتين: بين أن يصلي في أول الليل بعض الصلاة وفي آخر الليل بعض الصلاة فهذا جائز، وبين أن يصلي صلاةً تامة بوترها في أول الليل ثم يصلي صلاةً أخرى في جماعة بوترها، فذهب إلى أنه مكروه، والذي يظهر والله أعلم أن هذا غير مشروع؛ لأنه لم يرِد لا في السنَّة ولا في عمل الأمة من جهة ما أقرَّه الأئمة.

وهذا الذي قررناه في هذه المسألة هو ما قررته اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وبه أفتى أهل العلم كالشيخ عبدالعزيز ابن باز والشيخ محمد العثيمين رحمهما الله. ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة –المجموعة الثانية (6/82)، مجموع فتاوى ابن باز (11/338)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (14/190).

فلا ينبغي للإنسان التلبيس على الناس والتشكيك في أعمالهم، بل عليه أن يتثبت ويرجع إلى الكتاب والسنة وإلى أقوال الثقات من أهل العلم فإن في ذلك النجاة والسلامة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


 

صلاة الوتر ومسائلها

المسألة الأولى: الوِتر في اللغة: يُقال بكسر الواو وبفتح الواو، أي (الوِتر) بكسر الواو، والوَتر (بفتح الواو). ومعناه الفرد، وسُميت صلاة الوِتر بهذا لأنها تكون بعددٍ فردٍ، لا بعددٍ زوجي، فيوتر المسلم بركعة، وهذا عدد فردي، أو يوتر بثلاث ركعات، وهذا عدد فردي، أو يوتر بخمس ركعات، وهذا عدد فردي، أو يوتر بسبع ركعات، وهذا عدد فردي، أو يوتر بتسع ركعات، وهذا عدد فردي، أو يوتر بإحدى عشرة ركعة، وهذا عدد فردي، أو يوتر بثلاث عشرة ركعة، وهذا عدد فردي، أو يزيد في الأعداد الفردية.

وبعض أهل العلم يقول: سُمي الوِتر وِترًا؛ لأنَّ الوِتر ركعة، يقولون: الوِتر ركعة واحدة، فلمَّا كان ركعةً واحدة سُمي وِترًا.

المسألة الثانية: أن آكد صلاة الليل وأفضل صلاة الليل: الوِتر؛ ودل على ذلك نصوص كثيرة، منها:

1- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ الله وِتْرٌ يُحبَّ الوِتْرَ، فأَوْتِروا يَاَ أَهْلَ القُرْآَنِ». رواه الأربعة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني.

وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن فضل الوتر وأمر به.

2- كون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واظب على الوِتر في الحضر والسفر، كما جاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلاةَ اللَّيْلِ إِلا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ. رواه البخاري (1000)، ومسلم (700).

فدلَّ ذلك على أنَّ أفضل صلاة الليل، وآكد صلاة الليل: الوِتر.

المسألة الثالثة: أقل الوِتر:

قال جمهور الفقهاء: إن أقل الوِتر ركعةٌ، وذلك لما يأتي:

1- قول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ». رواه مسلم، والمقصود من (آخر الليل) يعني من آخر صلاة الليل، وسيأتينا -إن شاء الله- الكلام عن وقت صلاة الوِتر.

2- قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «صلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»، متفق عليه.

 ثمَّ إنَّ الجمهور اختلفوا في المراد بكون الوِتر ركعة على أربعة أقوال:

القول الأول: قال الشافعية والحنابلة: معناه أقل الوِتر ركعة، فلو أن الإنسان صلى ركعةً واحدة، ولم يُصلِ قبلها شيء في الليل، فإنه يصح منه، وقال الشافعية: يصح مع الكراهة، وقال الحنابلة: يصح بلا كراهة، لكنه دون الكمال، فالكمال ثلاث لكن يجوز، واستدلوا بما يأتي:

1- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اَلْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ». رواه أبو داود وابن ماجة والنسائي، وصححه الألباني.

ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ»، ولم يشترط النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتقدمها شيء.

2- قول عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- لما سُئِلت: بكم كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوتِر؟ قالت: "كان يُوْتِر بأربعٍ وثلاث، وست وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث". رواه أبو داود، وصححه الألباني

ليس المقصود أنه يُوْتِر بأربع وأحيانًا يُوْتِر بثلاث!!، بل كان يُوتِر بأربعٍ وثلاث معا، فإذا جمعتها فهي سبع، "وستٍ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث"، إذًا يُوْتِر بسبع، ويُوْتِر بتسع، ويُوْتِر بإحدى عشرة، ويُوْتِر بثلاث عشرة، فدلَّ ذلك على أن الوِتر يتنوع.

القول الثاني: معنى أن الوِتر ركعة أن الوِتر كلَه ركعةٌ واحدة، وما قبله ليس من الوِتر، يعني يقولون: الوِتر إنما هو ركعة واحدة، وما قبل الوِتر من الصلاة في الليل لا يسمى وِترًا؛ وذلك لقول عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يُوْتِر منها بواحدة". رواه مسلم.

فقول عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "يُوْتِر منها بواحدة"، يدل على أن ما قبل الواحدة ليس وِترًا.

القول الثالث: قال المالكية: معناه أن الوِتر ركعة بشرط أن يتقدمها شفعٌ، وأقله ركعتان، أي أن الوِتر ركعة، ولكن لا تُفرَدُ، بل يُشترط أن تتقدمها صلاة شفع، وأقل ذلك أن تتقدمها ركعتان؛ وذلك لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى». متفقٌ عليه.

قالوا: إذًا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً»، لكن ما شأنها؟ «تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»، إذًا ما صلاه قبلها هي تكون وِترًا له، فربط النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوِتر بواحدة بصلاةٍ قبلها.

القول الرابع: قال الأحناف: أقل الوِتر ثلاث كالمغرب، يعني أقل الوِتر ثلاث يصليها كالمغرب، يصلي ركعتين ثمَّ يجلس ويتشهد ولا يُسلَّم، ثمَّ يقوم ويأتي بركعة، ثمَّ يُسلِّم، لعموم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يوتِر بثلاث، ولقول ابن عمر -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهما-: "صلاة المغربِ وِترُ صلاة النهار". رواه الإمام مالك بإسنادٍ صحيح.

قالوا: فما دام أن الوِتر شُبِّه بالمغرب فيُصلى كالمغرب، وما دام أن ابن عمر -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُما- شبَّه الوِتر بالمغرب أو المغرب بالوِتر فإنه يُصلى كالمغرب.

أجيب عنه: بما جاء عن أبي هريرة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا تُوتِروا بثلاثٍ، ولا تَشبَّهوا بصلاةِ المغربِ». رواه ابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني والأرناؤوط. أيضًا يرده ما جاء عن إبراهيم التيمي التابعي الكبير؛ أنه قال: "كانوا يكرهون أن يُشبهوا الوِتر بالمغرب". رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح.

القول المختار: قول الشافعية والحنابلة أن أقل الوِتر ركعة؛ لقوة أدلته.

وتظهر فائدة هذا لو أن الإنسان نام قبل أن يوتِر، فاستيقظ قبل الفجر بوقتٍ يسير، بحيث لا يمكنه أنه يصلي الشفع ويوتِر بركعة بعد ذلك قبل أذان الفجر، فإنه على قولنا وعلى اختيارنا بجوازه له أن يوتِر بركعة، بل المشروع له أن يوتِر بركعة في هذه الحال.

المسألة الرابعة: أكثر الكمال لصلاة الوتر:

المقصود بالأكثر هنا أنه الأكمل والأفضل، أو بعبارةٍ أُخرى: أكثر الكمال إحدى عشرة ركعة، لا أكثر الجواز؛ لأن الجمهور عندهم لا حد لعدد ركعات الوِتر، يجوز أن يُوتِر بخمس عشرة ركعة، يجوز أن يوتِر بسبعة عشرة ركعة، وهذا قول الجمهور – كما تقد -

لكن المقصود هنا أن تعلموا أن المقصود أكثر الكمال، أما الجواز فيجوز أن يزيد على هذا، وكان أكثر الكمال إحدى عشرة ركعة؛ لأنه أقصى ما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يزيد على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره؛ لما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت:" ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرةَ ركعةً، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا"، قالت عائشة: قلت يا رسول الله: أتنام قبل أن توتر؟ قال:" يا عائشة، إن عينَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبي". متفق عليه.

وفي رواية لهما عنها: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُصَلِّي مِن اللَّيلِ ثَلاثَ عشْرةَ رَكعةً، مِنها الوِترُ، ورَكعتَا الفَجرِ».

وفي رواية لهما عنها:" كان يصلي من الليل عشر ركعات، ويوتر سجدة، ويركع ركعتَي الفجر، فتلك ثلاثَ عشرةَ ركعةً".

وجه الاستدلال: أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يزد على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره، وأكمل فعلٍ هو فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حتى لو جاز غيره لدليل.

فإن قال قائل: لم لم يقولوا إن أكثر الكمال ثلاث عشرة ركعة، مع أنه ثبت أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُوتِر بثلاث عشرة ركعة؟!

نجيب عنه: لأن العد بثلاث عشرة ركعة أُدخلت فيه ركعتا الفجر، أو الركعتان قبل صلاة الفجر، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي إحدى عشرة ركعة، ثمَّ يصلي جالسًا ركعتين، فإذا ضممت إحدى عشرة ركعة إلى ركعتين أصبحت ثلاث عشرة ركعة.

فقال بعض أهل العلم: إن أمنا عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- لما قالت: "إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوتِر بثلاث عشرة ركعة"، أدخلت ركعتي صلاة الفجر، وقد جاء في الأحاديث ما يدل على هذا.

وقال بعض أهل العلم: بل أدخلت ركعتي سنة الفجر اللتين كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يركعهما في بيته بعد أذان الفجر، فتمحض من هذا وتحصَّل أن أعلى ما نُقِل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أوتر بإحدى عشرة ركعة، فهذا هو أعلى الكمال.

المسألة الخامسة: أدنى الكمال لصلاة الوتر:

ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن أدنى الوِتر ركعة، وأدنى الكمال في الوِتر أن يُصلي ثلاث ركعات بسلامين؛ لأن أكثر ما نُقِل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يُوتِر بثلاث فأكثر؛ ومنها حديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- في قولها: "ما كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة، يُصلي أربعًا، فلا تسَلْ عن حُسنهن وطُولِهن، ثمَّ يصلي أربعًا، فلا تسَلْ عن حُسنهن وطُولِهن، ثمَّ يصلي ثلاثًا". متفقٌ عليه، فهنا وِترهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بثلاث.

وذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا بدَّ من ثلاث، وليس أدنى الكمال، بل أدنى الوِتر عندهم ثلاث ركعات.

المسألة السادسة: كيفية صلاة الوتر ثلاث ركعات:

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم صفتين في صلاة الوتر ثلاث ركعات، وكلها سُنَّة:

الصفة الأولى: أنْ يصلي الوتر ثلاث ركعات بسلامين، وهذا هو الأفضل؛ يصلي ركعتين ويُسلِّم، ثمَّ يقوم ويأتي بركعة ويُسلِّم؛ وذلك لما يأتي:

1- حديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- قالت: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كل ركعتين، ويُوتَر بواحدة". رواه مسلم.

والشاهد: في قولها -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "يُسلِّم بين كل ركعتين"، فشمل ذلك الثلاث الأخيرة.

2- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «صلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»، فهذا يدل على أنه يصلي ركعتين، ثمَّ يصلي ركعةً واحدة.

 3- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما تقدم معنا: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ».

 4- عن ابن عمر -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهما-: أن رجلًا سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الوِتر، فقال: «أَفْصِل بَيِن الوُاحِدَةِ والثِّنتَين بالسَّلَاَمِ» رواه الدارقطني، لكن الحديث في إسناده مقال.

لكن هذا الأمر ثابت؛ أن يصلي ثلاث ركعات، فيصلي ركعتين ويُسلِّم، ثمَّ يصلي ركعةً واحدة، وهذا أدنى الكمال.

الصفة الثانية: أن يصلي الوتر ثلاث ركعات بسلامٍ واحد سردًا بحيث يسرد الثلاثة ولا يجلس بينها؛ يصلي الأولى ثمَّ يقوم، ثم يصلي الثانية ثمَّ يقوم، فلا يجلس بعد الركعتين، ثم يصلي الثالثة ثمَّ يجلس ويتشهد ويُسلَّم.

وهذا جائز للأدلة الآتية:

1- عموم حديث عائشة رضي الله عنهما أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُوْتِر بثلاث. متفق عليه، فقول عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "وكان يُوْتِر بثلاث"، يحتمل ثلاث صفات -بالسبر والتقسيم-:

الصفة الأولى: أن يصلي ركعتين ويجلس ويُسلِّم، ثمَّ يقوم ويصلي ركعة، ويجلس في آخرها ويُسلِّم، هذا الاحتمال ولا إشكال فيه.

الصفة الثانية: أن يصلي الثلاث سردًا، ويجلس في آخرها ويُسلِّم، وهذا تحتمله اللفظة ولا إشكال فيه.

الصفة الثالثة: أن يصليها كالمغرب؛ فيصلي ركعتين، ويجلس للتشهد، ثمَّ لا يسلم بل يقوم ويأتي بركعة، ثمَّ يأتي للسلام، لكن هذا الاحتمال عندنا دليلٌ يدفعه؛ وهو الذي قدَّمناه من نهيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نُشبه الوِتر بالمغرب، فبقي الاحتمالان الأولان.

2- ما جاء عن عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- أنها قالت: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوتِر بثلاث، لا يُسلِّم إلا في آخرها". رواه الحاكم والبيهقي، وضعَّفه الألباني، وهو ضعيف.

3- ما جاء عن عمر -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-: "أنه أوتر بثلاث ركعات لم يفصل بينهن بسلام". رواه ابن أبي شيبة في المُصنَف بإسنادٍ صحيح.

4- ما جاء عن أنس بن مالك -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-: "أنه أوتر بثلاثٍ لم يُسلِّم إلا في آخرهن". رواه ابن أبي شيبة، فدلَّ ذلك على جواز أن يصلي الثلاث سردًا.

أي الصفتين أفضل:

الأفضل للمسلم أن ينوع فتارة يفعل الصفة الأولى وتارة يفعل الصفة الثانية، لكن الأكثر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين ويُسلِّم بعدها، ثمَّ يصلي ركعة.

المسألة السابعة: صفة الوتر:

صفة الوتر لها ست حالات حسب عدد ركعات الوتر:

الحالة الأولى: إن أوتر العبد بركعة؛ فهذا جائز على الصحيح، ولا يمكن أن تكون إلا صفة واحدة.

الحالة الثانية: إن أوتر بثلاث؛ فلها صفتان مشروعتان تقدمتا معنا؛ الصفة الأولى: أن يفصل بين الثلاث بجلوسٍ وسلام، ثمَّ يأتي بالثالثة مفردة، والصفة الثانية: أن يسرد الثلاث شردًا ويتشهد في آخرها ويُسلِّم، وكلاهما سُنة ثابتة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

الحالة الثالثة: إن أوتر بخمس؛ فإن السُنَّة ألا يجلس إلا في آخرهن، يصلي خمس ركعات لا يجلس بينهن، وإنما يجعل جلوسه في الركعة الأخيرة الخامسة ويتشهد ويُسلِّم؛ وذلك لحديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- قالت: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يُوْتِر من ذلك بخمسٍ، لا يجلس في شيءٍ إلا في آخرها". رواه مسلم.

فدلَّ ذلك على أن سُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن من أوتر بخمس يسردها سردًا، ويجلس في آخرها.

الحالة الرابعة: إن أوتر بسبع؛ فهو مُخيَّر بين صفتين:

الصفة الأولى: إن شاء سردها وجلس في آخرها ويُسلِّم، أي سردها كلها، لا يجلس بينها، ويجلس في السابعة، ويُسلِّم؛ وذلك لما جاء عن عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أسنَّ صلى سبع ركعات، لا يقعُد إلا في آخرهن". رواه النسائي، وصححه الألباني.

الصفة الثانية: إن شاء يصلي الست ركعات سردًا، ثمَّ يجلس ويتشهد في السادسة، ثمَّ يقوم لا يُسلِّم، فيأتي بالسابعة، ثمَّ بعد السابعة يتشهد ويُسلِّم؛ وذلك لما جاء عن عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "أن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما ضعُف أوتر بسبع ركعات، لا يقعُد إلا في السادسة، ثمَّ ينهض ولا يُسلِّم، فيصلي السابعة ثمَّ يُسلِّم". رواه مسلم والنسائي.

وأنا ذكرت النسائي هنا مع مسلم؛ لأن في رواية النسائي وضوحًا أكثر من رواية مسلم، فهنا عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- أخبرتنا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا ضعُف كان يصلي سبع ركعات، يسرد الست سردًا، ثمَّ يجلس، ثمَّ ينهض ولا يُسلِّم، فيصلي السابعة ثمَّ يجلس ويُسلِّم.

الحالة الخامسة: إن أوتر بتسعٍ؛ فإنه يصلي ثمانِ ركعات سردًا، ويجلس في الثامنة ويتشهد ولا يُسلِّم، ثمَّ ينهض للتاسعة، فيأتي بالتاسعة ويجلس في آخرها ويُسلِّم، هذه الصفة الواردة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لحديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: "أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُوْتِر بتسع ركعات، لا يقعُد إلا في الثامنة، ثمَّ ينهض ولا يُسلِّم، ثمَّ يصلي التاسعة". رواه مسلم.

الحالة السادسة: إن أوتر بإحدى عشرة ركعة؛ فإن الذي جاء في السُنة صفة واحدة؛ أن يُسلِّم من كل ركعتين، ويُوْتِر بواحدة؛ لحديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- في الصحيحين، -وقد تقدم مِرارًا-"أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي أربعًا، فلا تسلْ عن حُسنهن وطولهن، ثمَّ يصلي أربعًا، فلا تسَلْ عن حُسنهن وطولهن، ثمَّ يصلي ثلاثًا". ويحتمل حديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها-: أن يكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا صلى إحدى عشرة ركعة يصلي ركعتين، ركعتين، ويوتِر بثلاث سردًا، هذا مُحتمِل، ولكن التفصيل جاء فيه أنه يُسلِّم من كل ركعتين ويُوتِر بواحدة.

فإن شاء العبد فعل الثاني أحيانًا، فإذا أوتر بإحدى عشرة ركعة، يصلي ركعتين ويُسلِّم، ركعتين ويُسلِّم، ثمان ركعات، ثمَّ يصلي ثلاث ركعات سردًا، ويُسلِّم في آخرها.

وإن شاء من أوتر بثلاثٍ أو خمسٍ أو سبعٍ أو تسعٍ أو إحدى عشرة أو ما زاد على ذلك، أن يُسلِّم من كل ركعتين، ويُوْتِر بواحدة فهو جائز ولا حرج فيه؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «صلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»، فهذا يشمل كل عدد:

- ثلاث: يصلي ركعتين ويسلِّم ثم يأتي بواحدة.

- خمس: يصلي ركعتين، ركعتين، ثمَّ يأتي بواحدة.

- سبع: يصلي ركعتين، ركعتين، ركعتين، ثمَّ يأتي بواحدة.

قلت هذا حتى لا يظن الظان أن ما ذكرناه من السُنة أنه إذا أوتر بخمس فالصفة أن يسردها، أن هذا يمنع أن يأتي بركعتين ركعتين! هذا لا يمنع؛ للحديث الآخر الصريح الصحيح في هذه المسألة، هذا ما يتعلق بصفة الوتر.


 

المسألة الثامنة: وقت أداء الوتر:

اتفق الفقهاء على أن ما بين صلاة العشاء إلى دخول وقت الفجر وقتٌ للوِتر، كما اتفقوا على أنه لا يُصلى الوِتر قبل صلاة العشاء، وسيأتي إشارة إلى شيء يتعلق بهذا؛ لأنه لم يُنقل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أوتر قبل العشاء؛ ولحديث عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها- قالت: "كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة". رواه مسلم؛ ولقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا». متفقٌ عليه.

فلو أن شخصًا أوتر قبل أن يصلي العشاء، هل سيجعل آخر صلاته من الليل وِترًا؟! قطعًا لا؛ لأنه سيصلي بعدها العشاء، والعشاء أربع ركعات، فهذا يُنافي قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا».

قال ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللهُ-: "إجماعهم على أن وقته بعد صلاة العشاء، وأن الليل كله حتى ينفجر الصبح وقتٌ له"، وقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقتٌ للوِتر".

ثمَّ اختلف فقهاءنا في أمرين:

الأمر الأول: اختلف العلماء هل يدخل وقت الوِتر بدخول وقت العشاء أو بصلاة العشاء؟!

القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن وقت الوِتر يدخل بصلاة العشاء، فإذا صلى المسلم العشاء دخل وقت الوِتر، سواءً صلى العشاء في وقتها، أو جمعها مع المغرب جمع تقديم.

القول الثاني: ذهب أبو حنيفة والشافعية في وجه إلى أن وقتها يبدأ بدخول وقت العشاء، لكن أبا حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- لا يُجوِّز أن يصلى الوِتر قبل صلاة العشاء عمدًا، لكن عنده لو سها العبد فأوتر قبل صلاة العشاء، يقول: وقع الوتر في وقته ويُجزيه، مع أنه يقول بوجوب الوتر، يقول: يكفي.

أو تبيَّن بطلان صلاة العشاء التي أوتر بعدها؛ شخص كان يظن أنه على طهارة، فصلى العشاء، ثمَّ ذهب إلى بيته، ثمَّ توضأ فصلى الوِتر، ثمَّ بعد أن صلى الوِتر تذكر أنه كان على حدثٍ قبل صلاة العشاء، إذًا تبين أن صلاته العشاء باطلة، هنا يجب عليه عند أبي حنيفة أن يُعيد العشاء، وهذا لا إشكال فيه، ولا يُعيد الوِتر؛ لأنه صلاه في وقته بعد دخول وقت العشاء.

وأما الشافعية في وجه فإنهم يُجيزون أن يصلي الوِتر قبل أن يصلي العشاء.

القول المختار: الراجح رجحانًا بيِّنًا واضحًا أن وقت الوِتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء، فهذا الذي تدل عليه الأدلة.

الأمر الثاني: اختلف العلماء هل لمن لم يصل الوِتر حتى دخل الفجر أن يصلي الوِتر بعد دخول وقت الفجر؟!

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن وقت صلاة الوِتر ينتهي أداءً بطلوع الفجر، فإذا دخل وقت الفجر انتهى وقت أداء الوِتر؛ وذلك لما يأتي:

1- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى». متفق عليه، فدلَّ ذلك على أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الصبح.

2- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا». رواه مسلم، فجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوِتر قبل الصبح.

3- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إذا طلَعَ الفَجرُ فَقد ذَهبَ كلُّ صلاةِ اللَّيلِ والوِترُ، فأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجرِ». رواه الإمام أحمد والترمذي، وصححه الألباني.وهذا نصٌ في المسألة.

4- قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ اللهَ زادَكُم صلاةً، وهي الوِترُ، فصلُّوها بينَ صلاةِ العشاءِ إلى صلاةِ الفجرِ». رواه أحمد والطحاوي، والطبراني، والحاكم، وصححه الألباني والأرناؤوط.

ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «فصلُّوها بينَ صلاةِ العشاءِ إلى صلاةِ الفجرِ»، فجعل نهاية صلاة الوِتر صلاة الفجر، والمقصود وقت صلاة الفجر.

القول الثاني: ذهب المالكية، والشافعية في قولٍ، والحنابلة في رواية إلى أن له أن يصلي الوِتر بعد دخول وقت الفجر ما لم يصلِ الفجر، يعني إنسان نام على أن يوتِر في آخر الليل، فلم يوقظه إلا أذان الفجر؛ وذلك لما يأتي:

1- لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «فصلُّوها بينَ صلاةِ العشاءِ إلى صلاةِ الفجرِ»، فقالوا: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إلى صلاةِ الفجرِ»، ولم يقل إلى وقت الفجر، فدلَّ ذلك أنه يصليها ما لم يصل الفجر.

أُجيب عنه: بأن هذا النص وإن كان محتملًا إلا أن النصوص الأخرى دلَّت على أن المراد به طلوع الفجر.

2- لما جاء عن ابن عباسٍ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهما-: "أنه رقد، فلما استيقظ قال لغلامه: انظر ما صنع الناس، فخرج فوجدهم قد صلَّوا الفجر، فصلى الوِتر ثمَّ صلى الصبح"، رواه مالك. فابن عباس -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهما- رقد ليلةً، فلم يستيقظ إلا بعدما صلى الناس الصبح، فلما علم أن الناس قد صلَّوا الصبح، صلى الوِتر ثمَّ صلى الصبح.

3- لما رواه مالك عن عُبادة بن الصامت، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عامر، أنهم قد أوتروا بعد الفجر.

4- لما رواه مالكٌ عن ابن مسعودٍ أنه قال: "ما أُبالي لو أُقيمت صلاة الصبح وأنا أوتِر"، إذًا سيصلي الوتر بعد دخول الفجر؛ لأنه يقول: "ما أُبالي لو أقيمت الصلاة" وليس لو أذَّن، لو أقيمت صلاة الصبح وأنا أوتر.

لكن قال الإمام مالك: "إنما يوتِر بعد الفجر -أي بعد دخول وقت الفجر، وليس بعد صلاة الفجر- من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحدٍ أن يتعمد ذلك"؛ أي يقول الإمام مالك: لا ينبغي لأحد أن يتعمد أن يجعل وتره بعد طلوع الفجر، لكن إذا نام فاستيقظ وقد أذَّن المؤذن لصلاة الفجر يصلي الوتر.

قال ابن عبد البر: "هذا قول هؤلاء الصحابة وفعلهم، ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة"؛ أي يقول: ثبت هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وعُبادة بن الصامت، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عامر، ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة، فدلَّ ذلك على الجواز.

القول المختار: الأقرب -والله أعلم- أن الراجح هو قول الجمهور؛ أن وقت أداء الوتر ينتهي بطلوع وقت الفجر، لأن السُنة صريحة في هذا الباب، وفعل الصحابة هؤلاء يدخله الاجتهاد، ولم يستندوا فيه إلى نصٍ. وأما القضاء فهذه مسألة ستأتينا في آخر الباب

لكن من صلى الوتر بعد طلوع الفجر وقبل أن يصلي الصبح لا نُبطِل صلاته، لكن من سألنا نقول: الوتر ينتهي وقته بطلوع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا يوتر أداءً، وستأتي مسألة القضاء ووقته.

المسألة التاسعة: أحكام قنوت الوتر: وتحته ثمان فروع:

الفرع الأول: تعريف القنوت:

القنوت في اللغة: الأصل في القنوت في لغة العرب أنه الإمساك عن الكلام، فيُقال: فلانٌ قانت؛ أي أنه صامتٌ ممسكٌ عن الكلام، وقال بعض علماء اللغة في المعاجم إن القنوت في اللغة هو الدعاء في الصلاة.

وأما في الشرع: فالقنوت يأتي ويُراد به دوام الطاعة، يُقال: فلانٌ قانت، شرعًا أي أنه مُكثِرٌ من الطاعة، مداومٌ عليها، ويُراد به الخشوع كقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾[البقرة: 238]، فُسِر هذا بالخشوع، ويُراد به السكوت كما في اللغة، ويُراد به إطالة القيام، فأفضل الصلاة القنوت، أي إطالة قيامها بإطالة القراءة فيها، ويُراد به الدعاء، وهو المراد هنا.

فالقنوت هنا هو دعاءٌ مشروع في الصلاةِ على هيئة مخصوصة، ومحله داخل الصلاة، ولكنه يكون على هيئةٍ مخصوصة؛ لأن الدعاء في الصلاة مشروع في السجود، ومشروع في آخر الصلاة، لكن القنوت دعاء يُشرع في الصلاة على هيئةٍ مخصوصة، كما نُفصِله -إن شاء الله عَزِّ وَجَلَّ-، والقنوت في الشرع ثلاثة أنواع:

النوع الأول: قنوت الوِتر؛ أي القنوت في صلاة الوِتر.

النوع الثاني: قنوت الصبح؛ أي القنوت في صلاة الصبح في آخرها.

النوع الثالث: قنوت النوازل.

وسنتكلم عن الأنواع الثلاثة -إن شاء الله-، والمراد هنا في كلام المصنف قنوت الوِتر، حيث قال: (ويقنُتُ فيه)؛ أي يقنُتُ في الوِتر.

الفرع الثاني: حكم قنوت الوتر:

اختلف العلماء في حكم القنوت في الوِتر على أربعة أقوال:

القول الأول: ذهب أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- إلى وجوبه، تبعًا لإيجابه للوِتر.

القول الثاني: ذهب مالكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- في قول، وأحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في رواية، والشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- في قوله القديم، إلى أن القنوت مستحبٌ في النصف الثاني من رمضان، من ليلة السادس عشر من رمضان.

القول الثالث: ذهب مالكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- في رواية هي المذهب إلى أنه يكره الُقنوتُ في الوِتر، في رمضان وفي غير رمضان.

القول الرابع: ذهب الحنابلةُ والصاحبان من الحنفية أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعيةُ في قول إلى أن القنوت في الوِتر مستحب في السنة كُلها.

القول المختار: الأقرب هو القول الرابع -والله أعلم- أنه مستحب في السنة كلها وليس واجبًا؛ لأنه لا دليل على وجوبه، ولا دليل على تخصيصه برمضان، لا في النصف الأول ولا في النصف الثاني، ولا دليل على كراهيته.

ويدل لذلك الأدلة الآتية:

1- ما جاء عن الحسن بن علي -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ وعن أبيه- قال: "علمني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلماتٍ أقولها في الوِتر: «اللهمَّ اهدِني فيمَن هدَيتَ، وعافِني فيمَن عافَيتَ، وتولَّني فيمَن تولَّيتَ، وبارِكْ لي فيما أعطَيتَ، وقِني شرَّ ما قضَيتَ، فإنك تَقضي ولا يُقضَى عليك، إنه لا يَذِلُّ مَن والَيتَ، تبارَكتَ ربَّنا وتعالَيتَ»"، رواه الخمسة: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وصححه الألباني، وقال الترمذي: "لا نعرف عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القنوت في الوِتر شيئًا أحسن من هذا".

وجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علَّمه هذا الدعاء في القنوت في الوِتر، ولم يخص من ذلك زمنًا دون زمن، فدلَّ ذلك على أنه مشروع.

2- قال أُبي بن كعب -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-: "إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُوْتِر فيقنُت قبل الركوع". رواه ابن ماجه، وصححه الألباني، وقوله: (كان يُوْتِر فيقنُت) يدل على الاستمرار؛ لأنه قال: (كان)، ثمَّ قال: (يُوْتِر فيقنُت) فعبَّر بالمضارع، وهذا يدل على الاستمرار، فدلَّ على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقنُت في سائر السنة.

3- قال عليٌ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-:" إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في وِتره: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»". رواه الأربعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني.

ووجه الدلالة منه: أن عليًا -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- قال: (كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في وِتره..) وهذا قنوت، فهذا دلَّ على الاستمرار؛ لأنه قال: (كان يقول) فهذا يدل على أنه ليس خاصًا برمضان، بل مشروعٌ في السنة كلها.

4- أن عمر جمع الناس يصلون القيام خلف أبي بن كعب رصي الله عنه، وكان أبي بن كعب يقنت بهم بعد الركوع، رواه ابن خزيمة وصححه الألباني.

5- وروى ابن نصرٍ، عن عمر وعليٍ وابن مسعود -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُم-:  "القنوت في الوتر في السنة كلها"، ذكر هذا الشيخ الألباني -رَحِمَهُ اللهُ- محتجًا به.

فكل هذا عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعن صحابته -رضوان الله عليهم- يدل على عدم تخصيص القنوت بالنصف الأخير من رمضان، وإنما يكون مشروعًا في السنة كلها، وإن كان الأفضل ألا يُداوِم عليه الإنسان في السنة كلها، بل الأفضل أن يفعل قنوت الوتر أحيانا ويترك أحيانًا؛ لأن الذين رووا وِتر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يذكر كثيرٌ منهم القنوت، وأكثر من روى وِتر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمنا عائشة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْها، ولم يرد في كلامهم ذكر القنوت، فلو كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مواظبًا على القنوت في جميع أوتاره لنقلوا لنا ذلك، فدلنا ذلك على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقنُت في الوِتر أحيانًا ويترك أحيانًا.

فالسُنِّة والكمال والأفضل أن الإنسان يقنُت أحيانًا في الوِتر في رمضان وفي غير رمضان، ويترك أحيانًا، لكن في النصف الأخير من رمضان الأفضل ألا يُترك، وهذا معنى ما رواه ابن خُزيمة عن الصحابة بإسنادٍ ثابت: "أنهم كانوا يقنتون في النصف الأخير من رمضان"؛ أي أنهم كانوا يحافظون على القنوت.

هذا أدق ما قيل في هذا، فكانوا في النصف الأول يقنتون ويتركون كسائر السنة، فإذا دخل النصف الأخير لقربه من العشر الأواخر واظبوا على القنوت، ولم يتركوه، هذا الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه التحقيق في هذه المسألة.

الفرع الثالث: محل القنوت في الوِتر:

أولًا: اتفق العلماء على أنه في آخر ركعة، سواء أوتر بثلاث عشر، أو إحدى عشر، أو بتسعٍ، أو بسبعٍ، أو بخمسٍ، أو بثلاث، أو بواحدة على الصحيح، أنه يكون في آخر ركعة، فإذا كان الوتر ركعة فهي الوِتر، فإذا كان ثلاث اتفق العلماء على أنه في آخر ركعة وهكذا.

ثانيًا: اختلفوا في موضعه من الركعة الأخيرة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن القنوت في الوتر قبل الركوع ولا يكون بعد الركوع.

القول الثاني: ذهب الشافعية إلى أن القنوت في الوتر بعد الركوع ولا يكون قبل الركوع.

القول الثالث: ذهب الحنابلة وفقهاء الحديث إلى جواز الأمرين، يجوز أن يكون قبل الركوع، ويجوز أن يكون بعد الركوع.

أما مذهب المالكية تقدم أن المشهور عند المالكية أن القنوت في الوِتر مكروه؛ ولذلك لا يتكلمون عن موضعه، لكن في رواية عن الإمام مالك، قال بها بعض المالكية: إن القنوت في الوِتر مشروعٌ مستحبٌ في النصف الأخير من رمضان، وعليه فإن موضع القنوت عند المالكية في صلاة الصبح -وسيأتي كلامهم فيه- وعلى الرواية أنه يُقنت في الوِتر في النصف الأخير من رمضان؛ أنه يجوز الأمران: يجوز أن يُقنت قبل الركوع، ويجوز أن يُقنت بعد الركوع.

والأفضل أن يكون قبل الركوع؛ لأن الإمام مالك قال: إن الأمر واسع في قنوت الصبح، يجوز قبل الركوع وبعد الركوع، قال: "والذي أختاره لنفسي قبل الركوع"، فذهب المالكية إلى أن القنوت إذا شُرِع يجوز أن يكون قبل الركوع ويجوز أن يكون بعد الركوع، والأفضل أن يكون قبل الركوع.

أدلة القول الثالث (الحنابلة وأهل الحديث):

1- ثبوت الأمرين عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقد سُئِل أنس بن مالك -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-: أقنت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصبح؟! قال: "نعم"، فقيل له: أوقنَتَ قبل الركوع؟! فقال: "بعد الركوع يسيرًا". متفق عليه.

أي أن أنس بن مالك -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- سُئِل هل قنت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلاة الصبح؟! قال: نعم؛ قنت، وسيأتي الكلام عنها -إن شاء الله-، قيل: أوقنَتَ قبل الركوع؟! قال: بعد الركوع يسيرًا يعني قنت بعد الركوع يسيرًا، فلم يكن يُطيل القنوت، وإنما كان يقنت يسيرًا بعد الركوع، والحديث في الصحيحين، فهنا فيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قنت بعد الركوع.

2- سُئِل أنس بن مالك -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- عن القنوت في صلاة الصبح، فقال: "كنا نقنت قبل الركوع وبعده". رواه ابن ماجه وصححه الألباني، وإذا قال الصحابي (كنا) فإنه يُحمل على زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الراجح عند الأصوليين.

إذًا ثبت القنوت قبل الركوع وبعد الركوع عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

القول المختار: الأقرب -والله أعلم- أنه يجوز الأمران؛ يجوز أنْ يُقنت قبل الركوع، ويجوز أن يُقنت بعد الركوع؛ لقوة دليله.

ثالثا: اختلف العلماء القائلون بجواز الأمرين في أيهما أفضل؟!

القول الأول: ذهب بعضهم إلى استواء الأمرين، والأفضل أن يأتي بالأمرين، فأحيانًا يقنت بعد الركوع، وأحيانًا يقنت قبل الركوع؛ لثبوت الأمرين عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

القول الثاني: قال بعض أهل العلم: إن الأفضل أن يقنت في الوتر بعد الركوع، وهذا هو المذهب عند الحنابلة

لأن أكثر الأحاديث التي ورد فيها القنوت كان قنوت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها بعد الركوع، وهذه الأكثرية في الرواية تدل على الأفضلية، فالأفضل أن يكون بعد الركوع.

القول الثالث: قال بعض الفقهاء: إن الأفضل في قنوت الوِتر أن يكون قبل الركوع، واستدلوا بما يأتي:

1- لأنه الذي نُقل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قنوت الوِتر أنه قنت قبل الركوع، كما تقدم معنا في حديث أُبي -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-؛ أنه قال: "فيقنُت قبل الركوع". رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

وما ورد في بعض الروايات من أنه علَّم الحسن دعاء القنوت بعد أن يرفع من الركوع فضعيف، ولا شك في ضعفه.

2- لما رواه ابن أبي شيبة عن علقمة -رَحِمَهُ اللهُ- أن ابن مسعودٍ وأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانوا يقنتون قبل الركوع، وحسَّن إسناده ابن حجر والألباني.

3- ويجوز القنوت بعد الركوع؛ لثبوته عن عمر وغيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- كما قال الألباني -رَحِمَهُ اللهُ، أن القنوت بعد الركوع ثبت عن عمر -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-، وعن غيره من صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا يدل على الجواز.

وهذا الدليل الثالث حتى لا يظن ظان أن قولهم: إنه لم يُنقل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قنوت الوِتر إلا أنه قنت قبل الركوع، أن القنوت بعد الركوع لا يجوز! بل يجوز لثبوته عن عمر -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-.

القول المختار: والذي يظهر لي -والله أعلم- أن الأفضل في قنوت الوِتر أن يكون قبل الركوع، وفي قنوت النوازل أن يكون بعد الركوع؛ لأن هذا هو الظاهر في قنوت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

يقول الشيخ سليمان الرحيلي: استقرأت جميع الأحاديث التي ذُكِر فيها القنوت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ما كان صحيحًا منها وما كان ضعيفًا، فوجدت أنَّ قنوت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الوِتر يكون قبل الركوع، وفي النوازل يكون بعد الركوع.

وقد قال عاصمٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: "سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت"، قال عاصم: "قلتُ قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: إن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كَذَبَ، إنما قنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الركوع شهرًا". متفقٌ عليه.

أي قال عاصمٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: "سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت"، سألته عن القنوت يعني هل هو مشروع؟ فقال: قد كان القنوت، يعني قد كان القنوت مفعولًا في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال عاصم: "قلتُ قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: إن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كَذَبَ"، وكذب في باب الرواية عند السلف -في الغالب- يُراد بها: أخطأ.

قال: "كَذَبَ"؛ يعني: أخطأ في فهم كلامي، ثمَّ قال: "إنما قنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الركوع شهرًا". كيف يقول كذب، ومباشرة يقول: إنما قنت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الركوع شهرًا؟! يقول: كذب؛ يعني: أخطأ في فهم كلامي؛ فإني قلت: قنت بعد الركوع في النوازل، ولم أقل بعد الركوع في كل قنوت، هذا معنى كلام أنس -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-، يعني أنا قلت: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قنت بعد الركوع في باب النوازل؛ لأنها هي التي قنت فيها شهرًا، ولم أقل إنَّ القنوت مطلقًا يكون بعد الركوع.

فهذا الحديث يُبيِّن أن الأصل في القنوت في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قبل الركوع، وأن قنوت النوازل بعد الركوع، فهذا الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه الأفضل، على أن الإمام الأفضل له أن يختار من الصفتين، أو من الوقتين، أو من المحلين، يختار من المحلين ما يحصُل به جمع الكلمة، وعدم النزاع، وعدم الجدال.

فإن كان في قومٍ قد تعودوا أن القنوت في الوِتر بعد الركوع، فالأفضل أن يقنت بعد الركوع؛ لأن مصلحة جمع الكلمة، والبعد عن النزاع، والبعد عن تهمة طلاب العلم، مصالح عُليا تُضاف إلى دليل الجواز فيترجح، فإذا كنت ترى أن الأفضل كما رأيت أنا أن الراجح من أقوال علمائنا؛ أن الأفضل أن قنوت الوِتر يكون قبل الركوع، لكن كنت تصلي بالناس إمامًا، وكان المعروف في البلد أن القنوت بعد الركوع، فالأفضل في حقك عند صلاتك بالناس أن تقنت بعد الركوع؛ لهذه مصالح.

كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- أن من كان يرى أن فصل الوِتر أفضل من وصله، وكان يصلي بمن يرون أن وصل الوِتر أفضل، أن الأفضل له أن يصل؛ لما في ذلك من المصالح، وإذا كنت في قوم يرون أن الأفضل أن يكون القنوت قبل الركوع فالأفضل أن تقنت قبل الركوع، ولو كنت ترى أن الأفضل أن يكون بعد الركوع.

أما إذا صليت لنفسك، أو من معك من طلاب العلم من غير فتنة؛ يعني أن تصلي في بيتك، فافعل الأفضل الذي تراه، وإذا صليت بعدد من طلاب العلم مثلك فافعل الأفضل الذي تراه، لكن أقول من غير فتنة بمعنى إذا كنت تصلي في المسجد، والناس يرونك، وهم لم يتعودوا على القنوت قبل الركوع، فاقنت بعد الركوع.

ثمَّ لا مانع من تعليم الناس، بل هذا مطلوب، فإذا انتشر العلم بين الناس فهنا تفعل بهم في قنوتك، أو تصلي بهم في قنوتك ما ترى أنه الأفضل.

رابعًا: إذا قنت قبل الركوع، سواءً كان قنوته قبل أن يُكبِر ليهوي للركوع، يعني قرأ وانتهى من القراءة، ثمَّ قبل أن يُكبِر ليركع رفع يديه، ودعا للقنوت، جاز، أو بعد أن فرغ من القراءة وقال: الله أكبر ليركع، رفع يديه وقنت ثمَّ ركع، جاز؛ لأنه يجوز القنوت قبل الركوع وبعد الركوع، ولم يرد في السُنَّة تحديد هل هو قبل التكبير للركوع أو بعد التكبير للركوع؟! فالأمر واسع، فيجوز.

الفرع الرابع: حكم رفع الأيدي في القنوت:

أولًا: يُستحب أن تُرفع الأيدي في القنوت، وقد نصَّ على هذا الحنابلة والحنفية، والشافعية في وجهٍ، قال النووي: "هو الصحيح عند الأصحاب"، والدليل على ذلك: حديث أنس -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- قال: "رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلما صلى الغداة رفع يديه، فدعا عليهم". رواه أحمد وصححه الأرناؤوط والألباني، الغداة: يعني كلما صلى الفجر، فدعا عليهم: أي على القبائل التي قتَّلت أصحابه.

وهذا في القنوت في النوازل؛ لأنَّ الذي ثبت أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدعو عليهم في داخل الصلاة، في صلاة الصبح وفي غيرها كما سيأتي -إن شاء الله-، وفيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفع يديه، فدلَّ ذلك على مشروعية رفع اليدين في القنوت؛ لأنه ما دام أنه ثبت رفع اليدين في القنوت؛ فحيثما كان القنوت شُرِع رفع اليدين.

ثانيًا: السُنِّة في رفع اليدين ألا يُبالغ في رفعِهما فوق الرؤوس، ولا أن تُهز هزًا كما يفعله بعض الناس، وإنما أن يكون الإنسان على هيئة المسكين المنكسر، فيمُد يديه ويبسطهما عند صدره، يمُد يديه ويجعل بطونهما إلى السماء، ويبسطهما عند صدره، هذا هو ظاهر المستحب في رفع اليدين في القنوت.

الفرع الخامس: دعاء القنوت:

اتفق القائلون بمشروعية قنوت الوِتر إلا من سنذكر على أن القنوت يحصُل بأي دعاءٍ دعا به المصلي، والذين لا يرون المشروعية لا يدخلون معنا أصلًا، إلا شذوذًا سيأتي ذكره، على أنه حيثما دعا المصلي في القنوت بأي دعاء حصلت السُنة، ولو لم يكن المأثور.

كما اتفقوا على أن الدعاء بالمأثور أفضل.

وجاء في وجهٍ عند الشافعية، ونُسِب لبعض أهل الحديث أنه يتعين الدعاء بالمأثور في القنوت، يعني لا يصح بغير المأثور، قال ابن الصلاح المحدِث الفقيه الشافعي الكبير: "هذا شاذٌ مردودٌ، ومخالفٌ لجماهير العلماء".

فالصحيح أن الدعاء في القنوت بابه واسع، بدليل أنه رُوي عن الصحابة أدعية متنوعة، مما يدل على أن الصحابة قد فهِموا السعة في هذا الأمر، ولكن الأفضل أن يدعو الإنسان بالأدعية التي ثبتت في السنة وآثار الصحابة، ومن ذلك:

1- حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرما قضيت، إنك تقضى ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت". رواه أحمد، والترمذي والبيهقي، وحسنه الترمذي وصححه الألباني.

2- حديث علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره:" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". رواه الخمسة، وصححه الألباني.

فدلَّ تعليم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحسن للدعاء الأول، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للدعاء الثاني في وِتره، وظاهر العبارة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول ذلك في وِتره مستمرًا، يعني كلما أوتر؛ لأنه كان يقول في وِتره: «اللَّهُمَّ إِنِّي نعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ» إلى آخره، أن هذا أفضل ما يُدعى به في قنوت الوِتر، وليس في قنوت النوازل، وإن زاد شيئًا جاز باتفاق العلماء.

3- أثر عمر رضي الله عنه أنه قنت بسورتي أبي" قال ابن سيرين: كتبهما أبي في مصحفه إلى قوله ملحق. رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وصححه الألباني.

وسورتا أبي رضي الله عنه هما: «اللهم إنا نستعينك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك» والثانية: «اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق» كما في رواية البيهقي.

الفرع السادس: يُستحب أن يختم المسلم قنوته في الوِتر بالصلاة والسلام على نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد نصَّ على هذا الاستحباب الحنابلة والشافعية في المشهور، أما الحنفية والمالكية فلم أقف على نصٍّ لهم في هذا، لا بإثبات ولا بنفي. ويدل لاستحباب ختم قنوت الوِتر بالصلاة والسلام على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-دليلان:

الدليل الأول: حديث تعليم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للحسن دعاء القنوت، وجاء في آخره: «وصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَدٍ النَّبْي»، رواه النسائي في السُنن الكبرى، فذُكِرت الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر تعليم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحسن دعاء القنوت.

لكن هذه الزيادة -أعني الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غريبةٌ لا تثبُت، قال الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ-: "هذه الزيادة غريبةٌ لا تثبُت"، وقال الألباني -رَحِمَهُ اللهُ-: "الزيادة في آخره ضعيفة"، إذًا الدليل الأول لاستحباب ختم قنوت الوِتر بالصلاة والسلام على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضعيف.

الدليل الثاني: فعل صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وخيرُ فعلٍ بعد فعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو فعل صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

قال العلامة المحقق الألباني -رَحِمَهُ اللهُ عَزِّ وَجَلَّ-: "اطلعت على بعض الآثار الثابتة عن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم-، وفيها صلاتهم على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر قنوت الوِتر"، إذًا يحصل من هذا أنه يُستحب أن يختم المسلم قنوت وِتره بالصلاة والسلام على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

الفرع السابع: وظيفة المأموم في قنوت الوِتر:

اختلف العلماء في وظيفة المأموم في قنوت الوِتر، هل يؤمِن على دعاء الإمام فقط أو يقنت (أي: يدعو بنفسه سرا)؟ على أربعة أقوال:

القول الأول: قال بعض العلماء: يؤمِن فقط، وهو بهذا يكون قانتًا.

القول الثاني: قال بعضهم: يقنُت فيدعو كما يدعو الإمام.

القول الثالث: قال بعضهم: إن سمع دعاء الإمام فإنه يؤمِن، أما إذا كان لا يسمع الإمام فإنه يقنُت.

القول الرابع: قال بعض الفقهاء: يؤمِن في الدعاء ويقنُت في الثناء؛ فإذا قال الإمام: اللهم اهدنا في من هديت، فيقول: (آمين)، وإذا قال الإمام: وإنه لا يذل من واليت، فيقول: (وإنه لا يذل من واليت).

القول المختار: الأقرب -والله أعلم- أنه يؤمِن عند الدعاء، ويسكت فيما بقي، وبهذا يكون قانتًا؛ لحديث ابن عباسٍ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهما- قال: "قنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهرًا، يدعو إلى أحياء من بني سُليم، على رعلٍ وذكوان وعُصية، ويؤمِن من خلفه". رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الألباني.

فدلَّ ذلك على أن المأموم يؤمِن إذا دعا إمامه في القنوت، وهذا وإن كان في قنوت النوازل إلا أن القاعدة عند أهل العلم أن القنوت جنسٌ واحد، فما جاز أو شُرِع في شيءٍ من القنوت شُرِع في كل قنوتٍ.

الفرع الثامن: حكم مسح اليدين بالوجه بعد دعاء القنوت وبعد الدعاء خارج الصلاة:

الأول: مسألة مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء تأتي إذا كان ممن يرى رفع اليدين في دعاء القنوت -وهو الراجح كما تقدم-.

أما إذا كان لا يرى رفع اليدين في القنوت فإنه لا تأتي مسألة المسح، ولا يذكرون مسألة مسح الوجه.

الثاني: اختلف العلماء في حكم مسح وجهه بيديه بعد دعاء القنوت على قولين:

القول الأول: يُستحب إذا فرغ المصلي من دعاء قنوت الوِتر أن يمسح وجهه بيديه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو وجهٌ عند الشافعية.

القول الثاني: لا يُستحب، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، ووجهٌ عند الشافعية هو الصحيح عندهم.

لأنه فعلٌ في عبادة، والعبادات مبنيةٌ على التوقيف، ولم يثبُت في مسح الوجه باليدين في القنوت حديثٌ ولا أثر، ولم يثبت عن أحدٍ من الصحابة -رضوان الله عليهم-.

ولأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ».

القول المختار: الصواب أنه لا يُشرع، بل هو ممنوع.

الثالث: اختلف العلماء في حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء خارج الصلاة على قولين:

القول الأول: ذهب الحنابلة إلى أنه يُستحب للمسلم إذا دعا، ورفع يديه في الدعاء في خارج الصلاة أن يمسح وجهه بيديه؛ لما يأتي:

1- لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «سَلُوا اللهَ ببُطونِ أكُفِّكُم ولا تَسْألُوه بِظُهورِهَا، فإِذَا فرَغتُم فامسَحُوا بِهَا وجُوهَكم»؛ أي ارفعوا أيديكم في الدعاء، فإذا فرغتم فامسحوا وجهكم، والحديث رواه أبو داود، ورواه ابن ماجه بمعناه، ورواه البغوي في شرح السنة، والحديث ضعيف، وقد بيَّن الإمام الألباني -رَحِمَهُ اللهُ عَزِّ وَجَلَّ- ضعفه.

2- حديث السائب بن يزيد، عن أبيه -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ-:" أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيده". رواه أبو داود، وضعَّفه الألباني، قال العلامة الألباني -رَحِمَهُ اللهُ- بعد أنْ بيَّن أن في بعض طرقه رجُلًا لم يُسمى، وفي بعضها سُمي، وهو ضعيفٌ جدًّا.

قال الألباني -رَحِمَهُ اللهُ-: "وعلى ذلك فهذه الزيادةُ منكرة، ولم أجد لها حتى الآن شاهدًا، ولا يصلح شاهدًا للزيادة حديث ابن عمر مرفوعًا: "كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحُطهما حتى يمسح بهما وجهه"؛ لأن فيه متهمًا بالوضع، ولا حديث السائب بن يزيد عن أبيه نحوه -الذي ذكرناه-؛ لأن فيه ابن لهيعة، وهو ضعيفٌ عن حفص بن هاشم، وهو مجهولٌ، كما قال الحافظ، وقال الذهبي: "روى عنه ابن لهيعة وحده، لا يُدرى مَن هو".

هذا تمام كلام الإمام الألباني، وذكرته بنصه ليعلم الناس أن الأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، ولا تقبل التقوية، فلا يُعمل بها، ولا يُشرع للمسلم إذا دعا أن يمسح وجهه بيديه.

القول الثاني: أن مسح الوجه بعد الدعاء خارج الصلاة غير مشروع؛ لأن العبادات مبنية على التوقيف، فما لم يكن عندنا دليلٌ صحيح على ثبوت العبادة فإنه لا يُشرع لنا أن نفعل تلك العبادة.

القول المختار: القول الثاني، وهو عدم مشروعية مسح الوجه باليدين.

المسألة العاشرة: حكم قضاء الوتر وكيفية قضائه ووقته: وتحته فرعان:

الفرع الأول: حكم قضاء الوتر:

يُسن فعل الوتر في وقتها، لكن لو أن مسلمًا فاته الوتر فلم يؤدِّه في وقتها، فهل نقول: سنَّةٌ فات وقتها فيفوت فعلها، أو نقول: صلاةٌ شُرِعت فشُرِع قضاؤها؟ وقد اختلف الفقهاء في ذلك:

القول الأول: ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن السنن الرواتب والوتر لا تُقضى مطلقًا، فإما أن يؤديها في وقتها وإلا فاتت.

القول الثاني: ذهب محمد بن الحسن إلى أن السنن الرواتب والوتر لا تُقضى إلا سنَّة الفجر خاصة.

 واختار الشيخ ابن باز أن الذي يُقضى هو الوتر وسنَّة الفجر فقط.

القول الثالث: ذهب المالكية إلى أن السنن الرواتب لا تُقضى، فبعضهم قال: يكره قضاؤها، وهذا الأظهر في المذهب، وبعضهم قال: يحرُم أن تُقضى سوى سنَّة الفجر فإنها تُقضى بعد خروج وقت النهي.

القول الرابع: ذهب الشافعية إلى السنن القبلية -التي تكون قبل الصلاة- لها وقتان:

وقت اختيار، ووقت جواز.

وقت الاختيار: من دخول وقت الفرض إلى فعل الفرض.

وأما وقت الجواز: فبعد فعل الفرض إلى خروج الوقت.

مثاله: الركعتان قبل الظهر مثلًا والركعتان قبل الفجر وقت الاختيار لهما من دخول الوقت إلى فعل الفرض، فإن لم يصلها قبل الفرض، فإنه يصليها بعد الفرض وهو وقت أداء في وقت الجواز ليس قضاءً.

وأما السنن البعدية فوقتها بعد الفراغ من الفرض إلى خروج وقت الفرض، فإذا لم يُصلِّها حتى خرج الوقت فإنه يُندَب قضاؤها في الأظهر عند الشافعية.

القول الخامس: ذهب الحنابلة إلى أنه ينتهي وقت أداء السنَّة القبلية بفعل الفرض، وينتهي أداء وقت السنَّة البعدية بخروج الوقت، وفعلها بعد خروج الوقت يعد قضاء، والمذهب عند الحنابلة أنه يُسنُّ قضاء جميع الرواتب والوتر.

وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه لا يقضي إلا سنَّة الفجر

أدلة سنية قضاء السنن الرواتب والوتر مطلقا:

واحتجَّ من رأى سنيَّة قضاء السنن الرواتب والوتر مطلقًا بما يأتي:

1- قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» متفقٌ عليه.

 وجه الدلالة: أن من نسي أو شُغل عن الراتبة فقد نسي صلاةً، فالمشروع له أن يصليها إذا ذكرها.

2- لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لما نام مع أصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس وارتحل من المكان، صلَّى سنَّة الفجر بعد طلوع الشمس ثم صلَّى الفرض. رواه مسلم.

 ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى ركعتي الفجر قبل الفرض بعد طلوع الشمس، وهذا ليس وقت أدائهما فدلَّ على سنية القضاء.

 3- ويسنُد هذا ما جاء عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَامَ عَنْ رَكْعَتَي الْفَجْرِ فَقَضَاهُمَا بَعْدَمَا طَلَعَتْ الشَّمْسَ". رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني. والظاهر والله أعلم أنها نفس القصة التي عند مسلم، لكن هنا صريح في القضاء.

4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتِي الفَجْرِ فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسِ» رواه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبَّان، وصحَّحاه، وصححه الألباني.

وجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتِي الفَجْرِ»، وركعتا الفجر هنا يقينًا هما السنَّة ليست الفريضة؛ لأن الفريضة تصلى قبل طلوع الشمس؛ «فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسِ» فدلَّ ذلك على قضاء سنَّة الفجر.

5- حديث محمد بن إبراهيم عن جدِّه قيس قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الصُّبْحَ، ثُمَّ انْصَرَفَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَوَجَدَنِي أُصَلِّي، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا قَيْسُ؛ أَصَلَاتَانِ مَعًا؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَرْكَعْ رَكْعَتَي الفَجْرِ، فَقَالَ: «فَلَا إِذَنْ». رواه الترمذي وصححه الألباني.

وجه الاستدلال: قيس دخل والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصلي الفجر فصلى معه ولم يُصلِّ السنَّة، لما انصرف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يُصلي السنَّة، فمرَّ به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصلي وقد صلَّى معه فقال: «مَهْلًا يَا قَيْسُ؛ أَصَلَاتَانِ مَعًا؟» تصلي الفجر مرتين؟ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَرْكَعْ رَكْعَتَي الفَجْرِ، فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَلَا إِذَنْ»؛ يعني لا أُنكر عليك، ما دام أن الأمر كذلك فلا أُنكر عليك، فدلَّ ذلك على قضاء ركعتي الفجر.

6- حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا لم يُصلِّ أربعًا قبل الظهر صلَّاهنَّ بعدها". رواه الترمذي وحسَّنه الألباني.

فدلَّ ذلك على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يقضي سنَّة الظهر القبلية بعد الظهر.

7- حديث أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: "صلَّى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعد العصر ركعتين، فقالت له: ألم تنه عن الصلاة بعد العصر؟  فقال: «شَغَلَنِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ» متفقٌ عليه.

يعني هاتان الركعتان هما الركعتان اللتان بعد الظهر، فقضى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- السنَّة البعدية للظهر بعد العصر. فدلَّت هذه الأدلة كلها على أن الرواتب تُقضى.

إشكال وجوابه:

وأما حديث أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: صلَّى رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العصرَ ثمَّ دخلَ بيْتِي فصَلَّى ركعَتَيْنِ فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ؛ صلَّيْتَ صلاةً لم تكن تُصَلِّيها، فَقال:« قَدِمَ عَلَيَّ مَالٌ فشَغَلَنِي عَنْ الرَّكعتينِ كنتُ أرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فصلَّيْتُهما الآنَ» قال: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ أفنقْضِيهِما إذا فاتَتْنَا؟ قال: «لَا». رواه أحمد وابن حبَّان وأبو يعلى. إذن هذا الحديث يدل على أنها لا تقضى.

أجيب عنه: أولًا: أنَّ زيادة: (أفنقْضِيهِما) شاذة؛ كما قال الألباني والأرناؤوط، وذكر الشيخ الألباني أنَّ لها عِللًا كثيرة في [السلسلة الضعيفة]، تدل على أنَّ هذه الزيادة لا تصح، وأنَّ فيها شذوذ، وفي الإسناد انقطاع.

ثانيًا: لو سلَّمنا جدلًا أنها صحيحة؛ فإن معنى الحديث: أفنقضيهما بعد العصر إذا فاتتا كما فعلت؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا» لمَ؟ لأنَّ الوقت وقت نهي؛ فعلِمنا أنَّ قضاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد العصر مِن خصوصياته؛ فلا نقضي بعد العصر، أمَّا القضاء؛ فقد دلَّت الأدلة الكثيرة على القضاء.

القول المختار: الذي يظهر لي -والله أعلم- أنَّ مَن كان حاله كحال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محافظًا على الوتر والسنن الرواتب، فشُغِل عنها لعارضٍ؛ كمرض أو نوم، فإنه يستحب له أنْ يقضيها.

أما من تعمَّد تركها لغير عذر؛ فلا يقضيها؛ ولو كان مواظبًا عليها، ومِن باب أولى مَن لم يكن مواظبًا عليها؛ فإنه لا يقضيها؛ لأنَّه لا يُشبه حال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

الفرع الثاني: كيفية قضاء الوتر ووقته:

آكدها في استحباب قضاء الوتر، والصحيح مِن أقوال أهل العلم: أنه إذا فاتك وقت أداء الوتر لعارض، وأردت أنْ تقضيه في وقت الضحى، وتُزيد على وردك ركعة؛ بحيث تصليها شفعًا، فإذا كان وردك في الوتر ثلاث ركعات، فنمت عنه ليلة، فإذا جاء وقت الضحى تقضي وِترك، وتزيد ركعة؛ فتصلي أربعًا، وإذا كان وردك خمسًا، تقضي وتزيد ركعة؛ فتصلي ستًّا وهكذا، وذلك لما يأتي:

1- حديث عائشة -رَضْيَ اللهُ عَنْها- قالت: "إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ وجعٍ أَوْ غيْرِهِ، صلَّى مِنَ النَّهَارِ ثنْتَي عشْرَةَ رَكْعَةً" رواه مسلم.

يُصلي ثنْتَي عشْرَةَ رَكْعَةً؛ لأنَّه يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة؛ فيزيد عليها ركعة في النهار.

2- حديث عمر -رَضْيَ اللهُ عَنْهُ-: أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:«مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ» وقوله: «عَنْ حِزْبِهِ» يدخل في ذلك القراءة في الصلاة والقراءة في خارج الصلاة.

3- حديث أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ نَامَ عَنْ الوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ أَوْ اسْتَيْقَظَ» رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني، وفي روايةٍ: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ» رواه الترمذي وقال: "هذا أصح مِن الأول"؛ أي «إِذَا أَصْبَحَ» أصح مِن رواية: «إِذَا ذَكَرَ أَوْ اسْتَيْقَظَ» فدلَّ ذلك على أنه يُشرَع أن يُقضى الوتر في الضحى قبل الظهر.

وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يقضيه على هيئته، يُصلي ثلاث يقضي ثلاث؛ لبعض عمومات الأحاديث التي ذكرناها.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يقضي وتره في أي وقت؛ قبل الظهر، بعد الظهر، يقضيه أبدًا كما قال الشافعية.

 نوقش هذين القولين: أن حديث عائشة -عند مُسلِم- مفصَّل؛ فيقضي عليها.

القول المختار: الأقرب -والله أعلم- التقييد بما جاءت به السنَّة، يقضيه؛ ويزيد عليه ركعة، إلى صلاة الظهر.


 

تنبيه أهل الصيام على أخطاء متعلقة بصلاة القيام

الحمد لله الكريم المنَّان، هيأ لعباده أسباب الطاعة والقربان، وفرض عليهم الصيَّام فجعله من أخصِّ أبواب الغفران، وشرع القيام فجعله من أوثق دلائل الإيمان، له الحمد على العطاء والامتنان، والصلاة والسلام على من سبقت له الحسنى فلم تقعده عن الشكران، فتابع الصلاة بالصيام والإيمان بالإحسان، فصام النهار وقام الليل حتى تورمت منه القدمان، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تتابع الملوان، وسلَّم تسليما كثيرا.

أما بعد: فإنَّ من أعظم العبادات، وأجل القربات، إتباع صيام نهار رمضان بقيام ليله، وموالاة سعي النهار بسعي الليل، ونظرًا لحرص كثير من المسلمين على اغتنام فضائل رمضان، وارتشاف نسائم شهر الإحسان، مع جهل بما يخلُّ بمقصود هذه العبادات، ويناقض ما شرعت له من رب الأرض والسماوات، استعنت بالله في التنبيه على جملة مِن الأخطاء والمخالفات التي يقع فيها القائمون في ليالي رمضان، وسميته: تنبيه أهل الصيام على أخطاء متعلقة بصلاة القيام، والله أسأل أنْ يتقبل مِنِّي هذا العمل، ويجعله خالصا لوجهه، نافعًا لخَلقه.

فأقول مستعينا بالله: إن من الأخطاء والمخالفات التي يقع فيها القائمون في رمضان ما يلي:

1- المداومة على القيام منفردًا في البيت وترك شهودها في جماعة المسلمين؛ لأنَّ أداءها جماعة في رمضان -خاصة- سُنَّة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة مِن ذلك أنْ أنصب له حصيرًا على باب حجرتي، ففعلت؛ فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن صلى العشاء الآخرة، قالت: فاجتمع إليه مَن في المسجد فصلى بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلًا طويلًا ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..."الحديث. أخرجه أحمد، وصححه الألباني.

قال أهل العلم: هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة على مشروعيَّة قيام الليل جماعة، وأنه سنة نبويَّة، وإنما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره خشية أنْ تفرض على أمته صلاة الليل، كما في آخر الحديث.

2- عدم إكمال القيام خلف الإمام حتى ينتهي؛ لأنَّه بفعله هذا حرم نفسه ثواب قيام ليلة كاملة؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة". أخرجه أبو داود، وصححه الألباني.

3- مواصلة الإمام قراءته للقرآن في الصلوات المفروضة حتى يتمكن مِن ختم القرآن. وكذلك: مواصلته للقراءة خارج الصلاة؛ لعدم وجود الدليل عليها.

4- حمل المأموم المصحف في صلاة الليل دون حاجة لذلك؛ كالفتح على الإمام؛ لأنَّه بذلك يضيع سننًا كثيرة.

5- زعم طلب الخشوع بإطفاء أنوار المسجد، أو التقليل منها.

6- المداومة على إلقاء المواعظ أثناء صلاة التراويح، دون الحاجة إلى ذلك؛ كالتنبيه على أمر مهم. ولا بأس بأنْ تكون الموعظة بعد الانتهاء مِن القيام.

7- رفع الصوت بالبكاء والتكلف في ذلك؛ إذ إنَّه مدخل مِن مداخل الرياء، كما أنه قد يشوش على المصلين.

8- تفويت الجماعة الأولى لصلاة العشاء، لكي يدرك صلاة التراويح في مسجد آخر.

9- الاهتمام بالتراويح ونوافل القيام، مع التفريط في أداء الفرائض في الجماعة.

10- استعجال التراويح وإقامتها في المساجد قبل إعلان دخول الشهر؛ لأنَّ سُنِّيَة الجماعة في صلاة القيام خاصة برمضان.

11- تتبع المساجد، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليصل الرجل في المسجد الذي يليه، ولا يتبع المساجد". أخرجه الطبراني في الأوسط، وجَّود إسناده الألباني.

12- تصوير وبثُّ صلاة القيام، فتظهر صلاة الإمام ودعاؤه وبكاؤه وكثرة الناس خلفه، وهذا فيه مِن المفاسد: إشغال المصلين، وفتح لباب الرياء والشهرة.

13-استخدام مكبرات الصوت المشتملة على صدى في الصلاة؛ فهي تتسبَّبُ في زيادة حرف -أو أكثر- في القرآن، وهذا مُحَرَّم.

14- تعمد بعض المأمومين عدم الدخول في الصلاة حتى يركع الإمام، وهذا فيه تفريط في إدراك القيام وقراءة الفاتحة وغيرها مِن القرآن، وحرمان مِن خير عظيم.

15- استئجار القراء للقراءة في صلاة القيام، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه". أخرجه أحمد في المسند، وابن أبي شيبة في المصنف، وصححه الألباني.

16- تكلُّف تقليد بعض الأئمة لمشاهير القراء؛ ففيه تنطُّعٌ، وإلهاءٌ للمصلين بمجرد الصوت.

17- الدخول في صلاة التراويح بعد صلاة العشاء مباشرة، مع ترك سُنَّة العشاء.

18- عدم الالتزام بألفاظ دعاء القنوت الواردة في السُّنَّة وإضافة بعض الألفاظ عليها دون سندٍ؛ كقول بعضهم: (واصرف عنا برحمتك) بعد قوله: (وَقِنا)، وقول: (بالحق) بعد قوله: تَقضِي، ونحو ذلك مِن الإضافات غير الثابتة في قنوته صلى الله عليه وسلم الوارد في السنن الصحيحة.

19- رفع البصر إلى السماء أثناء الدعاء.

20- المبالغة في رفع اليدين في الدعاء، مع أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يفعله إلا في الاستسقاء.

21- السجع المتكلف في الدعاء.

22- رفع الصوت بالدعاء والتأمين، وتلحينه والتغني به وتشبيهه بالقرآن.

23- إطالة دعاء القنوت.

24- الاعتداء في ألفاظ الدعاء ومعانيه؛ كالتفصيل في الطلب، أو استعمال عبارات موهمة، أو الدعاء على عموم الكفار بالهلاك.

25- قول بعض المأمومين في التأمين على الدعاء: حقًّا، صدقًا، نشهد. وهذا قد يكون مبطلا للصلاة؛ لأنه ليس مِن ألفاظ الصلاة.

26- أداء صلاة الوتر على هيئة المغرب بتشهدين وتسليم واحد، فهذا منهي عنه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب" رواه ابن حبان وأبو حاتم والطحاوي، قال أهل العلم: المراد بالتشبه بالمغرب: أنْ يجعله بتشهدين، وأمَّا أداؤها على هيئة المغرب بتشهد وتسليم واحد فقد وردت به السُّنَّة؛ لحديث أبي أيوب أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوتر حق على كل مسلم، فمَن أحب أنْ يوتر بخمس فليفعل، ومَن أحب أنْ يوتر بثلاث فليفعل، ومَن أحب أنْ يوتر بواحدة فليفعل" أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

         والحمد لله رب العالمين.



visibility 1679 مشاهدة
visibility 1679 مشاهدة

هل كان المقال مفيد؟

logintoaddcomment

ملخص أحكام طهارة المريض وصلاته
15 فبراير 2024
من أراد الطهارة وكان في بعض أعضاء الطهارة جرح فإنه يغسله بالماء إن قدر على ذلك، فإن كان الغسل بالماء يضره؛ غَسل سائر الأعضاء السليمة ومسح محل الجرح مسحاً؛
ملخص أحكام صلاة الاستسقاء
15 فبراير 2024
الاستسقاء: استفعال؛ من السقيا. وصلاة الاستسقاء: هي الصلاة لأجل الدعاء بطلب السقيا، على صفة مخصوصة.
فضل الصلاة وخطر التهاون بها
15 فبراير 2024
الصلاة أهم أَركان الإسلام بعد الشهادتين، أمر الله -تعالى- بالمحافظة عَليها في كلِّ حال حضرا وسفرا، سِلما وحربا، صِحة ومرضا، وهي من آخر وصايا رسول اللهِ ﷺ لأمته