الاحتفال بالمولد النبوي بين صدق المحبة وبطلانها

صورة لمشاركة المدونة الاحتفال بالمولد النبوي بين صدق المحبة وبطلانها

بسم الله الرحمن الرحيم
لاحتفال بالمولد النبوي بين صدق المحبة وبطلانها

الحمد لله الذي عطف محبة رسوله على محبته، وجعل عنوان حبِّه حب نبيِّه واتباع سنته، واقتفاء نهجه وطريقته، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فإن من أصول الإيمان المقرَّرة، وواجباته المعتبرة، وجوب تقديم حبِّ الله  وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على كل محبوب.

إنَّ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفٌ لازمٌ للإيمان، فلا يستقرُّ في القلب إيمانٌ لمن لم يحب رسول الله ، ولا يكمل الإيمان حتَّى يكون حبُّه مقدَّمًا على من سواه.

والأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة كثيرة.

منها: قول الله تعالى :]قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين[ [التوبة:24].

وقوله سبحانه:]النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم[ [الأحزاب:6].

وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي :"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" متفق عليه.

فأصل الحبِّ واجبٌ لثبوت الإيمان، وتقديم حبه على من سواه واجب لكمال الإيمان، ومن هنا قال أهل العلم إنَّ معنى الحديث نفي كمال الإيمان الواجب الذي ينجو صاحبه من الوعيد ويستحق دخول الجنة بفضل الله عز وجل، وذلك لأن محبة الرسول r من واجبات الإيمان فمن أخلَّ بها فقد أخل بواجب من واجبات الإيمان التي لا يتم الإيمان بدونها .(مجموع الفتاوى (7/15) وما بعدها).

ومن ذلك: ما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال:كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر:يا رسول الله ،لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي :" لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي   :"الآن يا عمر".

إنَّ محبة النبي ليست كلاما تلوكه الأفواه، ولا شعارا يقلد على الرقاب، ولا دعوى يتقاذفها النَّاس.

إنَّ محبة النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تستقرُّ في القلب ويصدِّقها عمل الجوارح، ولا خلاف على هذه المقدِّمة أعني: كون محبته عبادة لها من الأحكام مثل ما لسائر العبادات الباطنة والظاهرة، فإذا تقرّر ذلك حقَّ علينا استجلاء مظاهر هذه العبادة على الطريقة السنيَّة، والسبل المرضيَّة التي قرَّرتها الشريعة، وعمل بها السَّلف الصالح من الصحابة والتابعين.

وثمة مظاهر تدلُّ على صدق محبته صلى الله عليه وسلم، وشواهد تشهد على عمق مودّته، من تلك:

1- اتباع أمره وطاعته في أمره ونهيه، وتقديم سنَّته وردُّ النزاع إليها، كيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى ذلك علامة حبه سبحانه، وبرهان صدق مدَّعيه، فقال سبحانه: ]قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [ فلا يكون الأمر طريقًا إلى محبة الله حتى يكون طريقا إلى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال سبحانه ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا[ 

2- التسليم له والرضى بحكمه، وعدم الحرج في قضيته قال تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممَّا قضيت ويسلموا تسليما﴾ .

3- تعظيمه وتوقيره والتأدب معه في حياته وبعد مماته قال تعالى: ﴿إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا(9) ﴾. [الفتح:9:8]. والآيات في صدر سورة الحجرات دالة على وجوب الأدب معه صلى الله عليه وسلم.

4- الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه أو أثنى به عليه ربه سبحانه وتعالى من غير غلو ولا تقصير، ومن أعظم الثناء عليه: الصلاة والسلام عليه في مواطنها، وعند ورود ذكره الشريف على المسامع واللسان وعند الخط بالبنان.

قال تعالى﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾. [الأحزاب:56].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشرا".رواه مسلم.

تلك مظاهر الحب الصادق، والمنهج العدل في حبه صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الوسط الآخذ بين طرفي الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، وهو نهج أصحابه صلى الله عليه وسلم، ونهج السلف الصالح ومن سلك طريقهم من أهل السنة والجماعة.

وبمعرفة تلك المظاهر وطريق أهل الحق تتبيَّن طرق الباطل وأهل الانحراف، وهي كثيرة ومتعددة، ومن أخطرها وأشنعها:

1- مجافاته ومباينة حبه وذلك طريق المحادين لله ورسوله من الكفار والمعاندين والملحدين، وهو مسلك المنافقين المستهزئين بالله ورسوله ودينه، قال تعالى عن المنافقين: ﴿ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم﴾.

2- الغلو في حبه ورفعه فوق منزلته ومخالفة سنته بدعوى محبته؛ فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه ورفعه فوق منزلته وصرف العبادة له كما فعلت النصارى مع عيسى بن مريم، فعن عمر بن الخطاب t قال: سمعت رسول الله يقول:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله"رواه البخاري.

وإنَّ مما ابتليت به هذه الأمة من مظاهر الغلو والانحراف في حبه البدع المحدثة في الدِّين تحت شعار حبه صلى الله عليه وسلم، ومن أخطر هذه البدع على عقيدة المسلم بدعة الاحتفال بذكر مولده التي أحدثها الفاطميون بعدما خلت القرون المفضلة، وذلك في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة.

إنَّ هذا الاحتفال الذي اتخذه بعض الناس عيدا بدعة منكرة ومخالفة صريحة لمقتضى محبته صلى الله عليه وسلم، فهو القائل: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه.

فمقتضى محبته التزام سنته ومجانبة البدع والمحدثاث في الدين، وليس إحداث أمرٍ لم يفعله ولم يأمر بفعله وإلحاقه بالدين بدعوى محبته .

فإذا تبيَّن لك – عبد الله- أن من مقتضى محبته مجانبة الابتداع والإحداث في الدين فاعلم أن الاحتفال بذكرى مولده من البدع المنكرة، فلا يجوز شرعا للمسلم أن يتقرب إلى الله تعالى بهذا الاحتفال،

 والأدلة على بدعية الاحتفال بالمولد كثيرة يكفي منها ما يلي:

الأول: أن النبي لم يفعله في حياته ولم يأمر بفعله بعد مماته، بل ولم يأت بذلك حديث صحيح، بل ولا حديث ضعيف.

الثاني: أن الصحابة y والتابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة لم يفعلوا هذا الاحتفال، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبّاً لرسول الله ومتابعة لشرعه ممن جاء بعدهم، فيسعنا ما وسعهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.

الثالث: إن الاحتفال بالمولد النبوي من سنة أهل الزيغ والضلال، فإن أول من أحدث هذه البدعة الفاطميون العبيديون في القرن الرابع الهجري.

الرابع: إن من قواعد الشريعة: أن العبادات توقيفية ليس لأحد أن يشرع فيها، وإنما يشرع منها ما شرع الله ورسوله، قال تعالى : ﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله﴾. [الشورى:2].

والله سبحانه قد أكمل لنا الدين ورسوله بلَّغ البلاغ المبين، وإحداث مثل هذه الموالد والبدع يفهم منه أن الله لم يكمل الدين وأن الرسول لم يبلغ ما أنزل إليه من ربه، حتى جاء هؤلاء المتأخرون بعد القرون المفضلة فأحدثوا هذه البدع، وكفى بهذا اعتراضاً على الله سبحانه وتنقصاً لشرعه وقدحاً في تبليغ رسالته عليه الصلاة والسلام .

الخامس: إن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً فيه تشبه باليهود والنصارى في أعيادهم، وقد نهينا عن التشبه بهم وتقليدهم.

السادس: إن المؤرخين اختلفوا في تحديد يوم ميلاده عليه الصلاة والسلام، فتحديد ليلة بعينها للاحتفال لم يثبت من الناحية التأريخية، كما أن الشهر الذي ولد فيه الرسول هو بعينه الذي توفي فيه فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.

السابع: يحصل في هذه الاحتفالات منكرات ومفاسد كثيرة، من أعظمها وقوع الشرك الأكبر بالله من دعاء الرسول وطلب الحاجات وتفريج الكربات منه، وإنشاد القصائد الشركية بمدحه والغلو فيه، كما يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء، والإسراف والتبذير وغيرها من المنكرات.

فهل يماري المماري في صدق هذه الأدلة، وهل لهذه البراهين الساطعة من دافع، كلاَّ، إلا من أعمى الهوى قلبه فسلك فيها مسلك التأويل والتعطيل، ودين الله وشرعه لا يجاز إليه إلا على ظهر التسليم.

فحري بالمسلم أن يكون وقافا عند الحقِّ مهما غالبه الهوى، أوَّابا إليه مهما نازعه أهل الباطل، وفي السنن المأثورة كفاية ومندوحة، وفي الاتباع الهدى والنجاة، وفي الابتداع الردى والهلاك.

اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم وفقنا لمحبة نبيك وطاعته واتباع سنته، وجنبنا المحدثات والبدع إنك يا ربنا على كل شيء قدير.

 

 



visibility 633 مشاهدة
visibility 633 مشاهدة

هل كان المقال مفيد؟

logintoaddcomment

ملخص أحكام طهارة المريض وصلاته
15 فبراير 2024
من أراد الطهارة وكان في بعض أعضاء الطهارة جرح فإنه يغسله بالماء إن قدر على ذلك، فإن كان الغسل بالماء يضره؛ غَسل سائر الأعضاء السليمة ومسح محل الجرح مسحاً؛
ملخص أحكام صلاة الاستسقاء
15 فبراير 2024
الاستسقاء: استفعال؛ من السقيا. وصلاة الاستسقاء: هي الصلاة لأجل الدعاء بطلب السقيا، على صفة مخصوصة.
فضل الصلاة وخطر التهاون بها
15 فبراير 2024
الصلاة أهم أَركان الإسلام بعد الشهادتين، أمر الله -تعالى- بالمحافظة عَليها في كلِّ حال حضرا وسفرا، سِلما وحربا، صِحة ومرضا، وهي من آخر وصايا رسول اللهِ ﷺ لأمته