الحمد لله الذي بفضله تتوالى أيام الفضائل، وبرحمته تتعاقب مواسم النوائل، وتتعالى بها مراتب الجزائل؛ لتكون مغنمًا للطائعين، وميدانًا لتنافس المتنافسين، له الحمد كما ينبغي، وله الثناء كما يصطفي، وأصلي وأسلم على المصطفى المختار، وعلى آله وأصحابه الأخيار.
أمَّا بعد: فهذا مقال وجيز فيما نستقبل مِن الأيام، أعني أيام العشر الأولى مِنْ شهر ذي الحجة، وقد جعلت الكلام فيه على قسمين:
القسم الأول: بيان فضلها.
والقسم الثاني: الأعمال التي تُشرع في عشر ذي الحجة.
وفي هذا ما أرجوه مِن الثواب والنفع لمن قرأه وتَقَفَّاه.
1- فضل أيام العشر
لقد نوَّه الله -عز وجل- بأيام العشر في كتابه إذ أقسم فقال: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾[الفجر:1-2] قال ابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهم-، ومجاهد، وغير واحد مِن السلف: "إنَّها عشر ذي الحجة". وحسْبها مِن الفضل ذلك القسم مِنْ ذي العزة والجلال، ثمَّ قد جاء صريح السنة وصحيحها ببيان فضل هذه العشر مِنْ حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر -يعني عشر ذي الحجة- قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه في التراب». أخرجه البزار في مسنده كما في كشف الأستار (2/27)، وصححه الألباني في صحيح الجامع وزيادته (1/253).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنْ أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منْه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله!! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع مِنْ ذلك بشيءٍ». أخرجه البخاري، والترمذي واللفظ له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما –أيضًا- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «ما مِنْ عملٍ أزكى عند الله -عز وجل- ولا أعظم أجرًا مِنْ خيرٍ يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله -عز وجل- إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع مِنْ ذلك بشيء». قال -أي القاسم بن أبي أيوب راوي الحديث عن سعيد بن جبير-: "وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه". رواه الدارمي في سننه (2/1113).
والأحاديث والآثار في هذا صعبة الحصر، جَمَّةُ الوَفْر، يُستغنى بالمذكور منْها عن التي لم تذكر، وفي الذي ذُكر يتجلَّى موضع هذه الأيام عند الله، حيث وردت الأحاديث أنَّها أفضل مطلقًا مِنْ سائر أيام الدهر، فانظر كيف فَضَّلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أيام رمضان والأشهر الحرم؟! ولم يستثن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الأيام شيئًا، حتى أيام العشر الأخيرة مِنْ رمضان، إلا أنَّ ليالي العشر مِنْ رمضان خير مِنْ ليالي العشر مِنْ ذي الحجة؛ لأنَّ نصَّ الحديث في الأيام دون الليالي، وبذلك تجتمع الأدلة وينجلي الأمر، ولعل الحكمة في فضل تلكَ العشر أنها مجتمع أمهات العبادات ومَعِنَّتُها، فالعبادة إمَّا أنْ تكون مالية، أو بدنية، أو جامعة للأمرين، وكل ذلك حاصل في هذه الأيام العشر، ففيها تؤدَّى أهمُّ أعمال فريضة الحجِّ، وفيها يوم عرفة الفضيل خير أيام السَّنَة، والحج عبادة مالية بدنية، وصيام يوم عرفة عبادة بدنية، وذبح الأضاحي والهدي والصدقات قُربات ماليَّة، ثم هي أيام تكبير وتهليل وذِكر لله وتعظيمه، والذِّكر مِنْ أفضل الطاعات المرسلة، فلْيَهْنِ مَنْ تقرب فيها إلى الله بالأجر والمثوبة.
وينبغي للمسلم أنْ يستقبل هذه العشر بالتوبة النصوح مِنْ جميع الذنوب والمعاصي، والتخلص مِنْ مظالم العباد وحقوقهم، فإنَّ الله سبحانه حَثَّ على التوبة والإنابة، ولا شكَّ أنَّ أيام العشر مِنْ ذي الحجة مِنْ أولى الأيام التي تُطلب فيها التوبة والإنابة؛ لما يُرجى فيها مِنْ قبول التوبة بإذن الله. وإذا كانت التوبة واجبة في الأزمان كلها فهي في الأيام الفضيلة أوْجَب قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾[التحريم:8]، وقال سبحانه: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31].
2ــ الأعمال التي تُشرع في عشر ذي الحجة
مِن المعلوم أنَّ الزمن لا يَشرف إلا بما يكون فيه مِنْ طاعة الله، فخَيْر أيام العبد ما كثرت فيه طاعته، وقَلَّت فيه معصيته، فالطاعة هي المـُشَرِّفة للزمان والمكان، فأيّما زمان أو مكان شاعتْ فَضيلته، وجزلت مثوبته فإنَّما كان ذلك بما شَرَع الله فيها مِنْ عبادات ورغائب، تسمو به على سائر الأزمنة. وقد شرَع الله كثيرًا مِن الأعمال والقربات في هذه الأيَّام منْها:
أولًا: أداء مناسك الحج والعمرة، فالحجُّ والعمرة يجِبان في العمر مرَّة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97]، ويسنُّ الإكثار منْهما، وقد جاء في فضلهما أحاديث كثيرة، منْها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». متفق عليه.
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنَّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة». أخرجه الترمذي في الجامع (3/166)، والنسائي في سننه (5/115). فأيُّ شيء أجزل خيرًا مِنْ هذا؟!
وفي أيام العشر تكون أعظم أعمال الحج، وقد رغَّب الله فيه أيّما ترغيب، ووعد بالثواب الجزيل لمنْ والى بين الحج والعمرة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: كثرة ذكر الله مطلقًا، فيستحبُّ الإكثار منْه لا سيما التكبير والتحميد والتهليل، وإظهار ذلك وإشاعته والجهر به للرجال، وتُخافِتُ النساء بالذكر؛ لقول الله عز وجل: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾[الحج:27-28]، والأيام المعلومات هي العشر مِنْ ذي الحجة؛ لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق". رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به (2/457 مع فتح الباري)، وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنْ أيّام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن مِنْ هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن مِن التهليل والتكبير والتحميد». أخرجه أحمد في المسند (10/296) والطبراني في الدعاء ــ ص(272)، والبيهقي في الدعوات الكبير (2/155).
والتكبير ينقسم إلى قسمين:
الأول: تكبير مطلق: وهو الذي لا يتقيد بشيء، فيُسَنّ دائمًا، في الصباح والمساء، قبل الصلاة وبعد الصلاة، وفي كل وقت ومكان يجوز ذكر الله فيه. ويجهر به الرجل، وتُسِّر به المرأة أمام الرجال الأجانب. ويبدأ وقته في عشر ذي الحجة وسائر أيام التشريق مِنْ غروب شمس آخر يوم مِنْ شهر ذي القعدة إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر مِنْ شهر ذي الحجة وهو آخر أيام التشريق، وذلك للأدلة الآتية:
1- الآيتان السابقتان مع تفسير ابن عباس رضي الله عنهما.
2- حديث ابن عمر السابق.
3- أنَّ ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما- كانَا يَخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا به كما في الفتح (2/457)، ورواه موصولًا الفاكهي في "أخبار مكة" (1013)، وقال محققه ابن دهيش: إسناده حسن.
الثاني: تكبير مقيد: وهو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، ويبدأ وقته لغير الحاج مِنْ فجر يوم عرفة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، أمَّا الحاج فيبدأ التكبير المقيد في حقه مِنْ ظهر يوم النحر؛ وذلك للأدلة الآتية:
1- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أنَّه كان يكبر دبر صلاة الغداة مِنْ يوم عرفة إلى صلاة العصر مِنْ آخر أيام التشريق". رواه ابن المنذر في الأوسط (2200)، والبيهقي (6496).
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّه كان يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فِراشِه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جميعًا". رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (970)، ورواه موصولًا ابن المنذر في الأوسط (4/344).
3- قال النووي في المجموع (5/32): "وأمَّا التكبير المقيد فيشرع في عيد الأضحى بلا خلاف؛ لإجماع الأمة".
والصحيح أنَّ التكبير المقيد يُستحب للرجال والنساء بعد الصلوات المفروضة، سواء صلى في جماعة، أو منفردًا. فإذا سَلَّم مِن الفريضة واستغفر ثلاثًا وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" بدأ بالتكبير.
صيغة التكبير:
لا تلزم في التكبير صيغة معينة، بل الأمر في ذلك واسع، وأفضل صيغهِ ما أُثر عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أنَّه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد". رواه ابن أبي شيبة (5651)، وصححه الألباني في الإرواء (3/125).
وقد هُجِر التكبير في هذا الزمان -خاصة في أوّل العشر- فلا تكاد تسمعه إلا نادرًا، فلنحرص على العمل به في مواضعه؛ لإحياء السُّنَّة، وتذكير الغافلين.
وينبغي أنْ يكبر كل واحد بمفرده، وأمَّا التكبير الجماعي بصوت واحد أو يكبر شخص ثم ترد المجموعة خلفه فلا يجوز؛ لعدم ورود ذلك في الشريعة؛ والعبادات توقيفية مبناها على الاتباع لا على الابتداع.
ثالثًا: صوم يوم عرفة والأيام الثمانية قبله، فقد تقدَّم أنَّ يوم عرفة خير الأيام وأعظمها أجرًا؛ وهو ركن الحج الأعظم، وأنَّ الله -عز وجل- يدنو مِنْ عباده في هذا اليوم فيباهي بأهل الموقف ملائكته والملأ الأعلى، فيغفر ذنوبهم، ويستجيب دعاءهم، ولذلك يشرع في هذا اليوم للحاج وغير الحاج كثرة الذكر والدعاء والإنابة إلى المولى عز وجل، وأمَّا صيام هذا اليوم فلا يستحب في حق الحاج، تأسِّيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رسول الله أسوة حسنة، فعن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها «أنَّ ناسًا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت بقدح مِنْ لبن وهو واقف على بعيره بعرفة؛ فشربه». متفق عليه.
أمَّا غير الحاج فيسن له الصيام؛ لما في ذلك مِن الأجر العظيم؛ فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن صوم يوم عرفة؛ فقال: «يُكَفِّر السنة الماضية والقابلة». متفقٌ عليه.
ويستحب صيام التسع كلها استدلالًا بما سبق مِن الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أيام العَمَلُ الصَّالح فيهن أحب إلى الله منْه في هذه الأيام العشر»، فالحديث عام في كل عمل صالح، والصيام مِنْ أفضل الأعمال الصالحة، وأحبها إلى الله.
وقد جاء عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم «أنَّه كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام مِنْ كل شهر، وأوّل اثنين مِن الشهر، والخميس». رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2437).
رابعًا: أداء صلاة العيد، فقد شرع الله في هذه العشر مِن القُرَبِ صلاة العيد التي تكون في عاشره، حثَّ الله عباده على أدائها في جماعة المسلمين، وأمر بحضورها مَنْ لا صلاة عليه مِنْ المسلمين؛ كالحائض والنفساء، وغيرهن، فعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: «أمرنا أن نخرج العواتق والحُيَّض في العيدين، يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيَّض المصلى». متفق عليه.
ففي الأمر بخروج النساء لها حتى الحيَّض منْهن؛ دليل أكيد على فضل هذه الصلاة وعظم شأنها عند الله، إذ هو مظهر مِنْ مظاهر شكر الله -تعالى- على ما يَسَّر مِنْ عبادته وطاعته في تلك الأيام.
خامسًا: ذبح الأضحيةُ التي هي سُنَّة نبي الله وخليله إبراهيم، إذ ابتلاه ربُّه لما أمره بذبح ابنه فصبر وأطاع، فأبدله الله به خيرًا، وَفَدَى ابنه بذبح عظيم، وترَكَها سُنَّة باقية إلى يوم يبعثون، أحياها الله بنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، ففي حديث أنس -رضي الله عنه- قال: «ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحِهِما». متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وجد سعة فلم يضح؛ فلا يقربن مصلانا». أخرجه الإمام أحمد في المسند (14/24)، والحاكم في المستدرك (4/258)، وصححه الألباني.
ثم إنَّ على مَنْ أراد الأضحية الإمساك عن الأظافر والشعر إذا دخل الشهر حتَّى يذبح أضحيته؛ لحديث أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أنْ يضحي فليمسك عنْ شعره وأظفاره حتى يُضَحِّي». وفي رواية: «فلا يمس مِنْ شعره وبشرته شيئًا». رواه مسلم.
ووجوب الإمساك عنْ أخْذ الشعر والظفر والبشرة يشمل مَنْ نَوَى الأضحية عنْ نفسه أو تبرع بها عنْ غيره. ولا يشمل مَنْ يُضَحَى عنهم مِنْ أفراد الأُسرة، وكذلك مَنْ ضَحى بوكالة أو وصية عنْ غيره ممنْ ترك مالًا لأضحيته.
ثم اعلم يا عبد الله أنَّ عموم الحديث المذكور سَلَفًا حاضٌّ على الاستكثار مِن الأعمال الصالحة، ولا سبيل إلى حصر العمل الصالح؛ فيكتَفى بالإشارة في ذلك، وهذا ما وَسِعَني التذكير به الآن، صوابه مِن الله، وخطأه مني ومِن الشيطان، واللهَ أسأل أنْ يُبارك لنا في أيامنا كلها، ويقربنا فيها إليه عز وجل، والحمد لله في البدء والختام، والصلاة والسلام على نبيّنا سيد الأنام، وعلى آله وصحابته أجمعين.
يُسَنُّ التكبير في أيام عشر ذي الحجة وعيد الأضحى وأيام التشريق، والتكبير ينقسم إلى قسمين:
الأول: تكبير مطلق: وهو الذي لا يتقيد بشيء، فيُسن دائمًا، في الصباح والمساء، قبل الصلاة وبعد الصلاة، وفي كل وقت ومكان يجوز ذكر الله فيه. ويجهر به الرجل، وتُسِرّ به المرأة أمام الرجال الأجانب. ويبدأ وقته في عشر ذي الحجة وسائر أيام التشريق؛ من غروب شمس آخر يوم من شهر ذي القعدة إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة وهو آخر أيام التشريق، وذلك للأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾[البقرة:203].
2- قوله تعالى: ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾[الحج:28].
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق". رواه البخاري تعليقا مجزومًا به (2/457 مع فتح الباري).
3- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِنْ أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن مِنْ هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن مِن التهليل والتكبير والتحميد". أخرجه أحمد في "المسند" (10/296)، والطبراني في "الدعاء" ص(272)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (2/155).
4- أنَّ ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما: "كانَا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما". أخرجه البخاري تعليقًا مجزوما به كما في " الفتح" (2/457)، ورواه موصولًا الفاكهي في "أخبار مكة" (1013)، وقال محققه ابن دهيش: إسناده حسن.
الثاني: تكبير مقيد: وهو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، ويبدأ وقته لغير الحاج مِنْ فجر يوم عرفة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، أمَّا الحاج فيبدأ التكبير المقيد في حَقِّه مِنْ ظهر يوم النحر؛ وذلك للأدلة الآتية:
1- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أنَّه كان يُكَبِّر دبر صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر مِنْ آخر أيام التشريق". رواه ابن المنذر في "الأوسط" (2200)، والبيهقي (6496).
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّه كان يُكَبِّر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فِراشِه، وفي فسطاطه ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعًا". رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (970)، ورواه موصولا ابن المنذر في الأوسط (4/344).
3- قال النووي في "المجموع" (5/32): "وأمَّا التكبير المقيد فيشرع في عيد الأضحى بلا خلاف؛ لإجماع الأُمَّة".
والصحيح: أنَّ التكبير المقيد يستحب للرجال والنساء بعد الصلوات المفروضة، سواء صلى في جماعة، أو منفردًا. فإذا سَلَّم مِن الفريضة واستغفر ثلاثًا وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" بدأ بالتكبير.
صيغة التكبير:
لا تلزم في التكبير صيغة معينة، بل الأمر في ذلك واسع، وأفضل صيغهِ ما أُثر عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أنَّه كان يُكَبِّر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد". رواه ابن أبي شيبة (5651)، وصححه الألباني في الإرواء (3/125).
وقد هُجِر التكبير في هذا الزمان -خاصة في أول العشر- فلا تكاد تسمعه إلا نادرًا، فلنحرص على العمل به في مواضعه لإحياء السُّنَّة وتذكير الغافلين.
وينبغي أنْ يُكَبِّر كل واحد بمفرده، وأمَّا التكبير الجماعي بصوت واحد أو يكبر شخص ثم ترد المجموعة خلفه فلا يجوز؛ لعدم ورود ذلك في الشريعة، والعبادات توقيفية مبناها على الاتباع لا على الابتداع.
يجب على من نوى الأضحية أن يمسك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته من بداية دخول شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي". وفي رواية:" فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً". رواه مسلم.
ووجوب الإمساك عن أخذ الشعر والظفر والبشرة يشمل من نوى الأضحية عن نفسه أو تبرع بها عن غيره. ولا يشمل من يُضَحَى عنهم من أفراد الأسرة، وكذلك من ضَحى بوكالة أو وصية عن غيره ممن ترك مالا لأضحيته.
ولا يسمى ذلك إحراما، وإنما المحرم هو الذي يحرم بالحج أو العمرة أو بهما معا.
ومن أخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو بشرته ممن أراد التضحية فلا يلزمه فدية، ولا تسقط عنه الأضحية، والواجب عليه التوبة والاستغفار.
إنَّ من الأَزْمِنَة العظيمة القَدْر الكثيرة الأجر يومَ عرفة، فهو أحد أيام الأَشهُر الحُرم، وأحد أيام أشهُر الحَجّ، وأحد الأيام المعلومات التي أَثْنى الله عليها، وأحد أيام الليالي العشر التي أقسم الله بها؛ مُنَبِّهًا على عِظَم فَضْلها، وعُلوِّ قَدْرِها، وأحد الأيام العشرة المفضلة في أعمالها على غيرها مِنْ أيَّام السَّنَة، يُسْتَحَبّ صومه لغير الحاج، وهو يوم دعاء، ومغفرة، وعِتْق مِن النَّار. وذهب بعض العلماء إلى عدم اختصاص ذلك بالحجاج دون غيرهم، قال الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" ص (482): "يوم عرفة هو يوم العِتْق مِن النار، فيعتق الله فيه مِن النار مَنْ وَقَف بعرفة ومَنْ لم يَقِف بها مِنْ أهل الأمصار مِن المسلمين".
وقال العلَّامة الشيخ د. صالح الفوزان: "الدعاء يوم عرفة عام للحُجَّاج وغيرهم، لكن الحجاج على وجه أخص؛ لأنَّهم في مكان فاضل، وهم متلبسون بالإحرام وواقفون بعرفة، فهم يتأكد الدعاء في حقهم، والفضل في حقهم أكثر مِنْ غير الحُجَّاج، وأمَّا بقية الناس الذين لم يحجوا فإنَّهم يشرع لهم الدعاء والاجتهاد بالدعاء في هذا اليوم؛ ليشاركوا إخوانهم الحجاج في هذا الفضل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». [رواه الترمذي (3585)، وحَسَّنَه الألباني في "صحيح الترمذي" (3/184)].
ومما ينبغي التَّنْبِيه عليه، والتحذير مِنْه:
التعريف عشية عرفة بالأمصار، وهو اجتماع الناس آخر نهار يوم عرفة في المساجد على الذكر والدعاء؛ تشبهًا بأهل عرفة، فهذا مِن البِدَع التي يجب الابتعاد عنها، والاقتصار على المشروع، قال الشيخ محمد بن عثيمين في "الشرح الممتع" (٥/٢٢٧): "والتعريف عشية عرفة بالأمصار: أنَّهم يجتمعون آخر النهار في المساجد على الذكر والدعاء؛ تَشَبُّهًا بأهل عرفة.
والصحيح: أنَّ هذا فيه بأس، وأنَّه مِن البدع، وهذا إنْ صح عن ابن عباس؛ فَلَعَلَّه على نطاق ضيق مع أهله وهو صائم في ذلك اليوم، ودعاء الصائم حَرِيّ بالإجابة، فَلَعَلَّه جمع أهله وَدَعَا عند غروب الشمس. وأمَّا أنْ يُفْعَل بالمساجد وَيُظْهَر وَيُعْلَن، فلا شك أنَّ هذا مِن البدع؛ لأنَّه لو كان خيرًا لسبقونا إليه، أي: الصحابة -رضي الله عنهم-".
1- الغسل قبل الصلاة
2- التطيب والتجمل ولبس أحسن الثياب، وتبتعد المرأة عند الاختلاط بالرجال الأجانب.
3- أن يؤخر الأكل إلى بعد الصلاة ليبدأ الأكل من أضحيته.
4- كثرة الذكر، ومنه: التكبير.
5- الذهاب مشيًا للمصلَى.
6- أداء صلاة العيد.
7- الذهاب لمصلى العيد من طريق، والرجوع من طريق آخر.
8- ذبح الأضحية.
9- التهنئة بالعيد مباحة.
10- إظهار الفرح.
يحرم صوم يومي عيد الفطر وعيد الأضحى، لما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الفطر والنحر". رواه البخاري (١٩٩١)، ومسلم في صحيحه (٨٢٧)، ولإجماع العلماء على ذلك.
كما يحرم صيام أيام التشريق وهي الأيام الثلاثة بعد يوم عيد الأضحى (الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من شهر ذي الحجة) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله". رواه مسلم (1141).
لكن يجوز صوم أيام التشريق للحاج الذي لم يجد الهدي، فعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي". رواه البخاري (1998).
وعليه فمن كان معتادا أن يصوم الأيام البيض من كل شهر فليترك صوم اليوم الأول منها وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لأنه من أيام التشريق، وليصم ثلاثة أيام بعده.
يهتم كثير مِن المسلمين بالأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة؛ لما فيها مِن الثواب العظيم.
لكنَّ أكثرهم يغفلون عن يوم النحر؛ يوم عيد الأضحى الذي هو أعظم أيامها، بل أعظم أيَّام الدنيا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ». [أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وصَحَّحَه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (1064)].
ويوم النحر هو يوم الحَجّ الأكبر، يُؤَدِّي فيه الحُجَّاج أعظم مناسك الحج: مِنْ رَمْي، وَنَحْر، وَحَلْق، وَطَوَاف، وَسَعْي، وهو يوم العَجّ والثَّجّ، وهو خاتمة الأيام المعلومات: أيام عشر ذي الحجة، وهو يوم تَقَرُّب إلى الله -تعالى- بأنواع القُربات: مِنْ ذَبْح للأضاحي، وَذِكْر الله -تعالى- بالتكبير وغيره، وهو يوم مَدّ يد السخاء بالعطاء للأقارب والأصدقاء والمحتاجين، وهو يوم شُكر لله تعالى.
فاجتهدوا فيه بالأعمال الصالحات غير الصيام؛ فإنَّه يحرم فيه، والسعيد مَنْ بادَر بالطاعات، قبل حُلُول الممات.
الحمد لله الذي شَرَع لعباده التَّقَرُّب إليه بذبح القربان، وقَرَن النَّحر بالصلاة في محكم القرآن، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل مَنْ قام بشرائع الإسلام وحقق الإيمان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تبعهم بإحسان، وسَلَّم تسليمًا.
أمَّا بعد: فإنَّ مِنْ شعائر الإسلام التضحيَة بذبيحة في عيد ذي الحجَّة المعروف بعيد الأضحى، ومقتضى ذلك أن يُلِمَّ المسلمُ بأحكام الأضحيَة؛ حتَّى يجري عمله على بصيرة مِنْ أمره.
وفي هذا المقال بيانٌ مختصر لأبرز المسائل المتعلقة بالأضحية، التي لا يسع المكلف جهلها، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: الأضحية هي ما يذبح مِنْ بهيمة الأنعام أيام عيد الأضحى؛ بسبب العيد، تقربًا إلى الله عز وجل.
ثانيًا: ذبح الأضحية سُنَّة أبينا إبراهيم الخليل -عليه السلام- حينما أُمر بذبح ابنه؛ فامتثل لأمر ربه -عز وجل- وسلَّم وانقاد، لكن الله -سبحانه بلطفه ورحمته- فداه بذبح عظيم.
كما أنها سُنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "ضَحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكَبَّر، ووضع رجله على صفاحهما". متفق عليه.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنَّها سُنَّة مؤكدة؛ استدلالًا بالحديث السابق.
وذهب الحنفية ورواية عن أحمد إلى أنَّها واجبة على المستطيع، واختاره ابن تيمية، وقواه ابن عثيمين.
ومن أدلتهم على الوجوب: ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وجد سعة فلم يُضحّ فلا يقربنَّ مُصَلّانا". رواه أحمد، وابن ماجه، والحاكم، وصححه الألباني.
ثالثًا: تجزئ الأضحية الواحدة مِن الغنم عن الرجل وأهل بيته، ومَنْ نوى إدخاله مِن المسلمين؛ لِمَا جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند ذبح أضحيته: "بسم الله، اللهم تقبل مِنْ محمد وآل محمد، ومِنْ أمة محمد". رواه مسلم.
رابعًا: الأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يُضَحّون عن أنفسهم وأهليهم.
وأمَّا الأضحية عن الأموات فعلى ثلاثة أقسام:
الأول: أنْ يُضحى عنهم تبعًا للأحياء، فيضحي الرجل عَنْه وعن أهل بيته الأحياء والأموات، فهذه مشروعة؛ لِمَا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه ضحى عَنْه وعن أهل بيته، وفيهم مَنْ قد مات مِنْ قبل.
الثاني: أنْ يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم التي تركوا لها مالًا أو أوقافهم، فهذه يجب تنفيذها؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:181].
الثالث: أنْ يضحي عن الأموات تبرعًا، مستقلين عن الأحياء، فهذه جائزة؛ لأنَّها مِنْ باب إهداء ثواب القرب، كالحج والصدقة عنهم، لكنها ليست مِن السنة؛ لأنَّ الشارع لم يحث عليها.
خامسًا: يشترط للأضحية أربعة شروط لا تجزئ إلا بها:
الشرط الأول: أنْ تكون الأضحية مِنْ بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم -ضأنها وماعزها-؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاْنْعَـمِ فَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾[الحج:34]. أمَّا التضحية بغير بهيمة الأنعام كالدواجن فلا تجزئ؛ لعدم ورود ذلك في الشرع.
الشرط الثاني: أنْ تكون الأضحية قد بلغت السِّنَّ المعتبرَ شرعًا، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، ونصف سنة في الضأن؛ لما جاء عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة؛ إلا أنْ يعسر عليكم فتذبحوا جذعة مِن الضأن". رواه مسلم.
الشرط الثالث: أنْ تكون الأضحية سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء، ومنها ما بَيَّنَه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البَيِّنُ عوَرُها، والمريضة البَيِّنُ مرضها، والعرجاء البَيِّنُ ظَلعها، والكسيرة التي لا تُنْقِي". رواه أحمد، وأصحاب السنن، مِنْ حديث البراء بن عازب. ومعني لا تُنقي: أي لا مخ لها؛ لضعفها وهُزالها.
ويُلحق بهذه الأربع ما كان مثلها أو أولى منها بعدم الإجزاء. ويجزئ الخصي؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين موجوءين، والوجأ: رض الخصيتين. وما قطعت خصيتاه أو شلتا فهو كالموجوء؛ لأنَّه في معناه.
الشرط الرابع: أنْ يذبح الأضحية في الوقت المحدَّد شرعًا، وذلك مِنْ بعد صلاة العيد يوم الأضحى إلى غروب شمس آخر يوم مِنْ أيام التشريق، وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم العيد، فتكون أيام الذبح أربعة، فعن جندب بن سفيان البجلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومَنْ لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله". متفق عليه. ويجوز الذبح نهارًا وليلًا.
سادسًا: الأفضل مِن الأضاحي جنسًا: الإبل ثم البقر-إنْ ضحى بهما كاملة-، ثم الضأن، ثم المعز، ثم سبع البدنة، ثم سبع البقرة.
والأفضل منها صفة: الأسمن الأكثر لحمًا الأكمل خِلْقَةً الأحسن منظرًا.
سابعًا: يجب على مَنْ نوى الأضحية أنْ يُمْسِك عن الأخذ مِنْ شعره وظفره وبشرته، مِنْ بداية دخول شهر ذي الحجة إلى أنْ يذبح أضحيته؛ فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أنْ يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي". وفي رواية: "فلا يمس مِنْ شعره وبشرته شيئًا". رواه مسلم.
ووجوب الإمساك عن أخذ الشعر والظفر والبشرة يشمل مَنْ نوى الأضحية عن نفسه، أو تبرع بها عن غيره. ولا يشمل مَنْ يُضَحَى عنهم مِنْ أفراد الأسرة، ولا مَنْ ضَحى بوكالة أو وصية عن غيره ممن ترك مالًا لأضحيته.
ولا يُسَمَّى الإمساك عن أخذ الشعر والظفر والبشرة إحرامًا، وإنما المحرم هو الذي يحرم بالحج أو العمرة، أو بهما معًا.
ومَنْ أخذ شيئًا مِنْ شعره أو أظفاره أو بشرته ممَّنْ أراد التضحية أثم، ولكن لا تلزمه فدية، ولا تسقط عنْه الأضحية، والواجب عليه التوبة والاستغفار.
ثامنًا: ينبغي الإحسان في الذبح بحدِ السكين، وإراحة الذبيحة والرِّفق بها، وإضجاعها على جنبها الأيسر.
تاسعًا: يُسَنُّ أنْ يتولى ذبح أضحيته بنفسه، أو يحضرها عند الذبح، ولا يُعطي الجزَّار أجرته منها شيئًا، أمَّا إعطاؤه على سبيل الهبة أو الصدقة فلا بأس، ويجوز له الانتفاع بجلدها دون بيعه أو شيء منْه.
عاشرًا: يُسَنّ للمضحي أنْ يأكل مِنْ أضحيته، ويُهدي، ويتصدق، ويجوز ادخار لحم الأضحية؛ لحديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كُلوا وأطعموا وادخروا". رواه البخاري. والإطعام يشمل الهدية للأغنياء، والصدقة على الفقراء، ويجوز إطعام الكافر منها.
إذا كان للإنسان بَيْتَان مُسْتَقِلَّان، وأراد أنْ يُضَحِّي لكل بيت بأُضْحِيَة، فإنَّه يَجُوز له أنْ يأخُذ مِنْ شعره وأظفاره بعد ذبح الأُضْحية الأولى؛ لأنَّ الشرع ألزم أُضحية واحدة، وما زاد عليها فزيادة في الخير؛ ولهذا فإذا ذَبَح الأُضحية الأولى جاز له أنْ يُقصِّر وأنْ يَحلِق ويُقلِّم، وقد نَصَّ على هذه المسألة بعض فقهاء الشافعية؛ كشمس الدين الرملي في "نهاية المحتاج"، والبجيرمي في حاشيته على "شرح منهج الطلاب"، وغيرهما.
سُنِّيَة المُبادَرة بذبح الأُضحية بعد صلاة العيد مباشرة
الأُضْحِيَة إحدى شعائر الإسلام المشروعة المُجْمَع عليها، يَتَقَرَّب بها المُسلمون إلى الله، وهي سُنَّة مُؤكدة، ويبدأ وقت ذبح الأُضحية مِنْ بعد صلاة عيد الأضحى، وينتهي بغروب الشمس مِنْ اليوم الثالث عشر مِنْ شهر ذي الحجة.
ومِن السُّنَّة أنْ يُبَادِر المسلم بذبح أضحيته بعد صلاة العيد مُباشرة؛ لحديث البَرَاء بن عازِب -رضي الله عنه- قال: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: «إنَّ أول ما نبدأ به في يومنا هذا أنْ نُصَلِّي، ثم نرجع فَنَنْحَر، فَمَنْ فَعَل ذلك فقد أصاب سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَح قبل أنْ يصلي؛ فإنَّما هو لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأهْلِه، ليسَ مِنَ النُّسُكِ في شيءٍ». [أخرجه البخاري (968) واللفظ له، ومسلم (1961)].
تُجزِئ الأُضحية الواحدة عن الرجل وأهل بيته ولو كَثُر عددهم؛ وذلك لِمَا جاء عن عطاء بن يسار قال: «سأَلت أَبا أَيّوب الأَنصارِيَّ كيف كانت الضّحايا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقال: كان الرَّجلُ يُضحِّي بالشَّاةِ عنْهُ وعن أَهلِ بيتِهِ، فيأْكلونَ وَيُطْعِمون، حتى تباهى النَّاسُ؛ فصَارَ كما ترى». [رواه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"].
والحديث صريح في إجزاء الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته مهما كثروا.
ويدخل في أهل البيت الزوجة والأولاد والأقرباء الذين يَسكنون في البيت ويُنفق عليهم رب البيت، أو يَشتركون معه في النَّفَقَة.
وفي الحديث ذم ما يقع فيه -للأسف- بعض الناس، ألا وهو التَّبَاهي بالأضاحي والتَّفاخر بها، وهو مَضْيعة للعمل، وَمُنَافٍ للإخلاص، ولا يَقبل الله مِن العبد إلا ما كان خالصًا لِوَجْهِه، لا رياء فيه ولا سُمْعَة، قال تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾[الحج:37].
ويجوز أن يُضَحِّي بأكثر مِنْ واحدة إذا أخلص النية، ولكنّ الأفضل أنْ يُضَحِّي بواحدة عنْه وعن أهل بيته -كَمَا دَلَّتْ عليه السُّنَّة-.