بسم الله الرحمن الرحيم
رفع الارتياب عن فريضة الحجاب
الحمد لله الذي أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل إلينا أحسن كتبه، وشرع لنا أحكم شرائع دينه، وجعلنا خير أمَّة أخرجت للناس، والصلاة والسَّلام على النعمة المسداة، والرَّحمة المهداة، نبينا محمَّد أزكى البريَّات، تركنا على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليما مزيدا.
أمَّا بعد:
فإنَّ ممَّا شهدت به الفطر السَّليمة، والعقول النيرة المستقيمة، فضلًا عن النُّصوص الصحيحة القويمة، أنَّ شريعة الإسلام أحسنُ الشَّرائع وأليقها بالإنسان؛ إذ بها تتحقَّق مصالح المكلَّفِ في المعاش والمعاد، وتنتظم على سَننها أحوال الحاضر والباد؛ وكيف لا وقد شرعت من لَّدُن حكيم خبير ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:١٤]، فمحالٌ أن يقضي لعباده بخلاف مقتضى الحكمة، ومحال أن تقتضي الحكمَةُ خلافَ مصالح العبادِ؛ فهو -سبحانه- ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[يوسف:٦٤]، و﴿أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾[هود:٤٥]، وهو﴿الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾[الأنعام:١٣٣].
فإذا تقرَّر ذلك علمنا أنَّ أحكام الشَّارِع عدلٌ كلُّها ورحمةٌ كلُّها ومصالح كلها، وهي الأنسب للناسِ والأصلح لهم في حالهم ومآلهم، ومقتضى ذلك أنْ يُسلِّم المرْءُ بما تقرَّر من هذه الأحكام؛ موقنًا بأنَّها الخير والعدل والرَّحمة، فحيث وجد حُكمُ الله ﷻ فثمَّ المصلحة.
وممَّا تضمَّنته أحكام الله وشرائعه من حكمٍ جليَّة ومصالح عليَّة: فريضة الحجاب على المرأة المسلمة، فليس لامرأة مؤمنة -تؤمن بالله واليوم الآخر- أن تجعل لنفسها الخيرة في لباسها، بل الواجبُ عليها الامتثال لأوامر الله ﷻ ورسوله ﷺ، واجتناب كلِّ ما نهى عنه الله ورسوله ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾[الأحزاب:٣٦].
وإنَّ مما ابتلي به النَّاس في هذا الزَّمان تطاول فئامٍ من النَّاس عمِيت بصائرُهم عن الحقِّ وفسدت سرائرهم، فطفقوا يتعرضون لكلِّ ما يخالف أهواءهم من أوامر الله ونواهيه؛ في حملات كيديَّة لا تهدفُ إلَّا إلى تحريف المجتمع الإسلاميِّ وتمييع أخلاقه عن ثوابته ومسلَّماته، وسلكوا في ذلك مسالك خطيرة، تقدِّم الهوى على الوحي، والعقل السقيم على النقل الصحيح.
وقد أمعنت هذه الدعوات في أذاها، وبلغت في إيذائها مداها، حتَّى أوهنت أفهام بعض العامَّة، وشكَّكت في فريضة الحجاب وهو أمر معلومٌ، لا يماري في وجوبه علمٌ صحيح، ولا ينازع في ضرورته عقلٌ رجيح.
فقد دلت الأدلة والنصوص -من الكتاب والسُّنَّة- على فرضيَّة الحجاب في مواطن كثيرة، وبأساليب مختلفة؛ تشهد باختلافها على أهميَّة هذا الأمر وخطورته، ومن تلك الأدلة:
1- قول الله ﷻ: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ إلى آخر الآية [النور:٣١].
فتأمَّل كيف تضمَّنت هذه الآية الأمر والنَّهي، اللَّذين عليهما مدار الأحكام الشَّرعيَّة، أمَّا الأمرُ ففي قوله: ﴿يَغْضُضْنَ﴾، و﴿وَيَحْفَظْنَ﴾، و﴿وَلْيَضْرِبْنَ﴾، وأمَّا النهي ففي قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ﴾، ومن بدائع هذا السِّياق القرآنيِّ: تضمُّنه الإشارة إلى الوسائل والمقاصد، فالمقصد هو حفظ الفروج، ولمَّا كان ذلك لا يتحقَّقُ إلَّا بجملةٍ من الوسائل نوَّه إليها وأكَّد الأمر بها، فأمر بغضِّ الأبصار، ونهى عن إبداء الزينة؛ لأنَّ انخرام كلِّ ذلك مفضٍ إلى انخرام المقصد، فخلع الحجاب وكشف الوجه وإبداء الزينة؛ سببٌ للنظر إلى المرأة وتأمُّل محاسنها والتلذذ بها، فصار بذلك وسيلة إلى ما هو أشدُّ حرمةً؛ كما قال النبي ﷺ: «إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النّظر، وزنا اللّسان النّطق، والنّفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه» رواه مسلم([1]).
2- قول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾[الأحزاب:٥٩]، فأمَر الله جميع المؤمنات بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه، وغير ذلك؛ حتى يعرفن بالعفة، فلا يُفتنَّ ولا يَفتنَّ غيرهن فيؤذين. والخطاب في كلا الآيتين إنَّما ورد بصيغة الأمر، وقد تقرَّر في علم أصول الفقه أنَّ الأصل في الأوامر الوجوب، ولا يجوز صرفُها عن الوجوب إلا بدليل، ولا دليل يصرف الآيات عن الوجوب، بل الأدلة والشَّواهد على وجوب الحجاب من القرآن الكريم كثيرة جدًّا؛ يضيق المقام عن حصرها.
3- حديث أم عطية، قالت: «أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يوم العيدين، وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحُيَّضُ عن مُصَلَاّهُن، قالت امرأة: يا رسول الله! إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لِتُلْبِسْهَا صاحبتها من جلبابها» متفق عليه([2]).
4- حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: «لقد كان رسول الله ﷺ يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات مُتَلَفِّعَاتٍ في مُرُوطِهِنَّ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يَعْرِفُهُنَّ أحد» متفق عليه([3]).
دلَّ الحديثان على أنَّ الحجاب والتستر كان سنَّة الصحابيات في عهد رسول الله ﷺ، وأنَّه ﷺ لم يأذن لهنَّ بالخروج والبروز للأجانب إلَّا وهنَّ محتجبات ولو أدَّى الأمر إلى أن تستعير إحداهنَّ جلباب صاحبتها، وهذا لا يكون إلَّا في شيء معلوم الوجوب. فكيف يسوغ للمسلم أن يخالف أوامر ربِّه وما كان عليه هدي نبيه وجرى به عمل صحبه الكرام وهو يقرأ قول الله ﷻ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:١١٥]؟! فتأمَّل رعاك الله في هذا الوعيد الشَّديد، واحذر مخالفة سبيل المؤمنين وسلف الأمّة الصالحين.
ثمَّ إنَّ حجاب المرأة المسلمة ممَّا تتطلَّبه العقول السليمة؛ لما فيه من المصالح العاجلة والآجلة، فالشريعة الإسلاميَّة جاءت بالأخذ بما يليق بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي تألفها العقول الراجحات، إذ إنَّ سفور المرأة وكشفها عن محاسنها أمام الرجال الأجانب ذريعةٌ إلى الافتتان بها والانجذاب إلى التمتُّع بجسدها دون وجه حقٍّ، فيبتزَّها هذا من هنا وهذا من هناك، فتكون كالسِّلعة يتقاذفُها الرجال، ومن ثمَّ سدَّ الشارع هذا الباب؛ حفظًا لحياة المرأة وكرامتها، الذي يتحقق به حفظ كرامة جنس الإنسان الذي كرَّمه الله -سبحانه- بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء:٧٠]. ولم يكِلِ الشَّارع هذا الأمر الخطير إلى نظر الإنسان واختياره؛ لأنَّ داعي الهوى فيه كبير، والوازع الذاتيَّ ضعيف؛ لاقتضاء الغريزة تطلُّع الجنس إلى الجنس الآخر، ومعلوم أنَّ ما كان هذا شأنُه -ممَّا لا يغني فيه الوازع الذَّاتيُّ عن اقتراف حِمى الحُرمة- فإنَّ الشَّارع يتكفَّلُ بضبطه بالتشريعات الآمرة والزَّاجرة؛ كما هو الشأن في المال وما يتعلق به من تشريعات آمرة وزاجرة، نبَّه على ذلك علماء الأصول والمقاصد.
وليتأمَّل العاقلُ حال ومآل الأمم والمجتمعات التي أحلَّت السُّفور -وقنَّنت له القوانين- كيف أصبحت متفككة الأواصر النسبيَّة، منحلة الروابط الاجتماعيَّة، تكابِدُ فيها المرأةُ -على ضعفها- شظف العيش؛ لتقوم على أولادٍ لا آباء لهم! رعايةً وتربيةً، وينشأ الناشئُ دون أبٍ يرعاه، بل دون أمٍّ تحنو عليه، كلُّ ذلك من جناية شعارات الحريَّة الزائفة والدَّعوات المضلِّلة، التي أخرجت المرأة من بيتها، ونزعت عنها لباس حشمتها، ألا فليعلم أرباب هذه الدعوات أنَّ الله ﷻ أعلم بخلقه، وأحكمُ في شرعه، وأرحمُ بعباده، فلم يشرعُ لعباده إلَّا ما يتحقق به مصلحتهم في الدنيا والآخرة.
أعده
أ.د. حمد بن محمد الهاجري
رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الكويت
11 شعبان 1439هـ - 27/4/2018م.
([1]) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، حديث (٢٦٥٧) (4/ ٢٠٤٦).
([2]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب، حديث (351) (1/80)، وصحيح مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة، مفارقات للرجال، حديث (890) (2/606).
([3]) صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، حديث (578) (1/120)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وهو التغليس، وبيان قدر القراءة فيها، حديث (645) (1/446).