الكاشف المبين لما في أقفال العشاق والمحبين من المحظور المشين

صورة لمشاركة المدونة الكاشف المبين لما في أقفال العشاق والمحبين من المحظور المشين

بسم الله الرحمن الرحيم

الكاشف المبين لما في أقفال العشاق والمحبين من المحظور المشين

الحمد لله الذي تعُبِّد بالحُبِّ والانقياد، وعد بالحسنى لمن آمن به وخلع الأنداد، واصطفى مِن خلقه مَن أحبه مِن العباد، فكان الخيرة في سيد السّادة، وإمام المتقين الهجّاد، مَنْ جعل الله اتباعه لحبه علامة، وفي مخالفته فتنة وملامة، فصلوات الله عليه تترًا، وسلامه دهرًا، وعلى آله وصحابته طُرًّا، ولقد قال وهو الصادق المصدوق: «لتتبعن سَنَن مَنْ كان قبلكم حذو القُذَّةِ بالقُذّة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه»([1]) أمَّا بعد.

وإنَّ مِن علائم نبوَّةِ نبيّنا وصِدقه -بأبي هو وأمي- أنْ ذكر ما يصيب آخر هذه الأمة مِن بدع في الدين متنوعة، وفتن كظلمات الليل متقطّعة، أفلا يكون كذلك وهو الصادق المصدوق، وقد قال ربه -جل في علاه-: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾[النجم:3-4]، أَلا وإنَّ مِن الفِتَن ما استحدثه الناس مِن تقليد الكَفَرة في عاداتهم، وأحوالهم؛ كاتخاذ رموزهم العشقيّة، وهي ما يُعرف بـ((أقفال الحُبِّ))، وإنها لظاهرة خطيرة تَدِبُّ في أهل الإسلام دبيبًا حَثيثًا، وتنفث فيهم شيئًا خبيثًا، فنسأل الله سلامته وعافيته.

 ولقد رأيت أنه مِن باب أداء واجب البيان، والتواصي بالخير، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم، التَّصَدِّي لهذه الظاهرة المُشِينة، وكشف خطورتها ومحاذيرها الشرعية.   كيف نشأ التعبير عن الحب بالأقفال:

اعلم أنَّ ((قفل الحب)) هو ما يعلِّقه العُشَّاق على جسرٍ، أو سياج، أو بوابة، ونحوه، ينقش فيه اسم المعشوق، أو يُحفَر، وقد يكون الرّمز أو الصورة عوض اسمه، ثم يلقى مفتاح ذلك القفل في خربة، أو مكان سحيق، إيماءً إلى عمق المودَّة والعشق، ودوامه، وقد ظهرت هذه العادة في بعض بلاد الغرب، وكان ظهورها قبل نحو عشرة عقودٍ، فلمَّا ثوى فيهم واشتهر، انتقلت جرثومته إلى بلاد المسلمين مع بعض أبناء الأمة المستغربين، والله يحفظنا مِن عبث العابثين، وخلق الكفرة الفاجرين.

 

 

خطر هذه الظاهرة على عقيدة الإسلام:

إنَّ مَن يرمز بالقفل على حبِّ مخلوق مَّا؛ فإنّما يُلَوِّح بالأقفال إلى غَلْقِ روحه على محبوبه أبدًا، وذلك مخالفٌ لعقيدة الإسلام مِن أوجه:

أولها: أنَّ فيه مبالغة في حب ذلك المحبوب، بما لا يجوز صرفه إلا لله -عز وجل- المنعم المنَّان، فالحب غير المشروط لا يكون إلا لله -جل جلاله- فهو المحمود أولًا وآخرًا، المستوجب المحبة على جميع الأحوال، فله المحبّة المُطلقة، أمَّا غيره فلا يكون له الحب المطلق على عواهنه، وإنما ينتهي حبه عند حدِّ الله، ويتقيد بقيده، فلا يجوز محبة مَن حادَّ الله ورسوله، ولا أنْ يحب شيئًا فيه معصية الله، أو يحبَّ عاصيًا لله -ظاهرًا عصيانه- حُبًّا مطلقًا، وإنما يحبه فيما أطاع الله فيه، وفي الجملة فإن حب غير الله تابعٌ لمحبة الله، فإذا علمت ذلك تَبَيَّن لك أنَّ حب أصحاب الأقفال يقتضي محبة المحبوب في جميع أحواله، سواء أطاع الله أم عصاه، والمخلوق عرضة لتغير الحال، والانقلاب مِن حال حسنة إلى سيئة، لذا لا يكون حبه أبديًا؛ ما لم يعلم عصمته؛ كالأنبياء والرّسل والملائكة، أمَّا مَنْ سواهم فقد تتغير حاله، فيسوء بعد حسن، فلا تجوز محبته إلا في حاله الحسنة، كما قد يكون عكس ذلك، وقد أُثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في ذلك قوله: «أحبب حبيبك هونا ما عسى أنْ يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أنْ يكون حبيبك يومًا ما»([2])، والمحبَّة المُطْلَقة عبادة؛ فلا تكون إلا لله: قال -تعالى-: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3]، وقال -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾[البقرة 165]، وفي هذا يقول السّعدي -رحمه الله-: "فعلم يقينًا بُطلان قول مَنْ اتخذ مِن دون الله آلهة وأندادًا، سواءً كان ملكًا، أو نبيًا، أو صالحًا؛ صنمًا أو غير ذلك، وأنَّ الله هو المستحق للمَحبَّة الكاملة، والذل التام؛ فلهذا مَدَح الله المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ أي: مِن أهل الأنداد لأندادهم؛ لأنهم أخلصوا محبتهم له، وهؤلاء أشركوا بها؛ ولأنهم أحبوا مَن يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا مَن لا يستحق مِن الحُبِّ شيئًا، ومحبته عين شقاء العبد، وفساده، وتشتّت أمره"([3]).

ثانيها: أنَّ في هذه الأقفال المذكورة شبهًا بالتمائم المُحرَّمة، والطلاسم التي يرمز فيها المتشعوذون، وهي: -أعني رموز القفل- مِن شعب التمائم والطلاسم، ولا تَخلوا غالبًا مِن التِّوَلَة، والسحر، ثم قد يصحبها اعتقاد تأثير القفل على بقاء الحب وديمومته، فيخرج مِن كونه رمزًا إلى اعتقاد باطل، وتوكل على ما لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، فأنت ترى أنْ لولا اعتقاد الفاعل أنَّ في القفل دلالة على تحريز تلك المحبة وديمومتها ما اتخذ القفل رمزًا له، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: «إنَّ التمائم والرقى والتولة شرك»([4])، وقال -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تعلّق تميمة فقد أشرك»([5])، قال ابن باز: "العِلَّة في كون تعليق التمائم مِن الشرك -والله أعلم- أنَّ مَنْ عَلَّقها سيعتقد فيها النفع، ويميل إليها، وتنصرف رغبته عن الله إليها، ويضعف توكله على الله وحده"([6]).

فإذا اعتقد مُعلِّق القفل أنَّ القفل سبب في بقاء الحب؛ كان ذلك منه شِركًا أصغر، أمَّا إذا اعتقد أنَّ القفل يجلب الحب أو يحافظ عليه؛ فهذا منه شرك أكبر مُخرِج مِنْ المِلَّة -ونستعيذ بالله منه- وهذا كافٍ للتحذير مِنْ هذا الأمر الشنيع، والله المستعان.

ثالثها: أنَّ هذا الرَّمز عادة أجنبية وفيها تَشَبُّه بالكفار، والعُشَّاق الفُجَّار، وقد نُهينا أشدّ النَّهي عن التشبُّه بالكفرة، ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس مِنَّا مَنْ تشبّه بغيرنا، لا تشبّهوا باليهود ولا بالنصارى»([7])، وعنه -صلى الله عليه وسلم-: أنَّه قال لمَّا رأى عَلَى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- ثوبين مُعَصْفَرين: «إنّ هذه ثياب الكفار؛ فلا تلبسها»([8])، وجماع ذلك كله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن تشبّه بقوم فهو منهم»([9])؛ لأنَّ في التّشبّه بغير المسلمين ولاء لهم، وقد قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة:51]، فَيَجِب على المسلم أنْ يحذَر مِن كل ما يمسّ عقيدته بسوء، ويَتَّقي مواطن الشّبه كلها، لا سيما ما يخشى فيه الإشراك بالله، وعلى المرء المسلم اتباع منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطريقته، والاستغناء بطريقته وطريقة السلف الصالح عن الطرق المحدَثة كلِّها، ويحذر الأفكار الدخيلة، والثقافات المُستوردة مِنْ مجتمع غير المسلمين، فيضبط حبه بضوابط الشرع، فإنَّ في شريعة الله غِنى، وبرسول الله أسوة.

واللهَ نسأل العصمة مِن الزلل والخطل، وإياه نستحفظ عقيدتنا وديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأنْ يقِيَنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ونبيه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

أعده/ أ.د. حمد بن محمد الهاجري

رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية سابقاً

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الكويت

28/ذي الحجة/1439 الموافق 08/09/2018

 

 

([1]) أخرجه البخاري في صحيحه (9/103 ح7320).

([2]) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/336)، والبخاري في الأدب المفرد (ص447)، موقوفًا على عليّ -رضي الله عنه-، وقد روي مرفوعًا، أخرجه الترمذي في جامعه (4/360 ح1997) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفي ثبوت المرفوع خلاف، وقد صحح الألباني المرفوع في صحيح الجامع الصغير وزياداته (1/97).

([3]) تفسير السعدي: الجزء الأول صـــ123.

([4]) أخرجه الخلال في السنة (5/14)، والطبراني في المعجم الكبير (9/174) عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وإسناده صحيح.

([5]) أخرجه أحمد في المسند (28/637 ح17422) عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه-، وإسناده صحيح، وانظر السلسلة الصحيحة للإمام الألباني (1/889).

([6]) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (8/304).

([7]) أخرجه الترمذي في الجامع (5/56 ح2695)، والطبراني في الوسط (7/238)، كلاهما مِن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي إسناده ضعف، غير أنَّ له شواهد مِن أحاديث أخرى؛ ولذا فقد حسَّنه الألباني في الصحيحة (5/227).

([8]) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (4/36)، وأحمد في المسند (11/62 ح6513)، والنسائي في سننه (8/203) كلهم مِن حديث جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-، وهو صحيح الإسناد.

([9]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/516 ح5115)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/212)، عن ابن عمر -رضي الله عنه-، وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو ضعيف، لكنَّه يعتضد بالحديث السابق؛ فيكون حَسَنًا.



visibility 245 مشاهدة
visibility 245 مشاهدة

هل كان المقال مفيد؟

logintoaddcomment

ملخص أحكام طهارة المريض وصلاته
15 فبراير 2024
من أراد الطهارة وكان في بعض أعضاء الطهارة جرح فإنه يغسله بالماء إن قدر على ذلك، فإن كان الغسل بالماء يضره؛ غَسل سائر الأعضاء السليمة ومسح محل الجرح مسحاً؛
ملخص أحكام صلاة الاستسقاء
15 فبراير 2024
الاستسقاء: استفعال؛ من السقيا. وصلاة الاستسقاء: هي الصلاة لأجل الدعاء بطلب السقيا، على صفة مخصوصة.
فضل الصلاة وخطر التهاون بها
15 فبراير 2024
الصلاة أهم أَركان الإسلام بعد الشهادتين، أمر الله -تعالى- بالمحافظة عَليها في كلِّ حال حضرا وسفرا، سِلما وحربا، صِحة ومرضا، وهي من آخر وصايا رسول اللهِ ﷺ لأمته